لقد قلبت الحرب العالمية الثانية الاوضاع كلها. ولكي تحرر نفسها من النازية فوضت اوروبا امرها الى قوى جديدة : الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي. ولاسباب متعددة، لم يكن في مصلحتها الحفاظ على الامبراطوريات الاستعمارية. وقبل نهاية الحرب جرى تعويض عصبة الامم بهيئة الاممالمتحدة التي اصبح مقرها نيويورك وليس جنيف، للدلالة على العهد الجديد. ان اكتشاف معسكرات الاعتقال النازية، وان جاء متأخرا، الا انه ابان عن فظاعة ما يمكن ان يؤدي اليه طموح جنس معين للهيمنة على اجناس اخرى. وبموازاة مع التنديد بالعنصرية، تم اعادة النظر في مفهوم الجنس نفسه. ونشأ اعلان عالمي جديد لحقوق الانسان ذكر بمساواة الجميع، محررا بذلك كل اولئك الذين ظلوا لزمن طويل تحت الوصاية باعتبارهم أيتاما او قاصرين. ثم ألم يساهم هؤلاء بأعداد غفيرة في المعارك التي خاضتها القوى الغربية؟ وبهذه المناسبة، ألم تقدم لهم وعود فرض النصر الالتزام بها؟ ان القضايا الاكثر استعجالا بعد الحرب، كانت على ما يبدو في الشمال وليس في الجنوب. كان هناك اولا اعادة بناء اوروبا المدمرة نتيجة الحرب. ولهذا اعلن عن مشروع (مارشال) بتاريخ 5/6/1947 لدعم الاقتصاد الاوروبي، وفتح آفاق امام القدرة الانتاجية الامريكية الهائلة والتي كانت تتطلب اعادة هيكلة بعد نهاية الحرب. وكان هناك ايضا الخلاف الناشئ بين حلفاء الامس، والاطماع الستالينية في اوروبا، اضافة الى سقوط مجموعة من الدول الاوروبية في معسكر (الديموقراطيات الشعبية) (بولونيا سنة 1947، ورومانيا 1948، وتشيكو سلوفاكيا 1948، وهنغاريا 1949)، دون ان ننسى الحرب الاهلية في اليونان ما بين 1946 - 1949. وفي سنة 1948 اقام السوفيات جدار برلين. وقد فرضت الحرب الباردة اتخاذ تدابير وقائية جدية ادت الى نشأة حلف (الناتو). ان الاهتمامات السياسية للقوى الكبرى آنذاك استأثرت بها احداث اثرت بشكل واسع على العلاقات الاوروبية، مما جعل التحولات التي كانت تعيشها دول الجنوب، تحتل المواقع الخلفية ضمن هذه الاهتمامات. لكن في ظل هذا السياق الذي يبدو اقل ملاءمة لاهتمامات خارج الغرب، تم ابتداع مفهوم (التنمية). المحور الرابع للرئيس ترومان مع نهاية سنة 1948، كانت السياسة الخارجية الامريكية تعيش اقصى درجات غليانها لمواجهة التحولات الكبرى التي كانت تحصل في مختلف انحاء العالم. وفي هذا الوقت بالذات، كان محرر الخطابات الرئاسية منهمكا في تحديد بعض الخطوط البارزة كمرتكزات لبناء (الخطاب التقليدي حول حالة الامة) الذي كان على الرئيس الامريكي ترومان إلقاؤه يوم 20 يناير 1949. وقد تمخض عن الاجتماع الاول ثلاث افكار رئيسية تم الاجماع حولها بسرعة : مواصلة الولاياتالمتحدةالامريكية دعمها لهيئة الاممالمتحدة، ومتابعة جهودها لاعادة بناء اوروبا من خلال مشروع مارشال، واخيرا انشاء هيئة جديدة مشتركة للدفاع (الناتو) لمواجهة التهديد السوفياتي. وبالاضافة الى هذه المحاور الثلاثة اقترح احد الموظفين محورا رابعا يتعلق بفكرة تعميم المساعدة التقنية لتشمل الدول المعروفة، بعدما كانت تستفيد منها آنذاك بعض دول امريكا اللاتينية فقط. وبعد لحظة من التردد، تم في النهاية قبول هذه الفكرة لجدتها ولكونها ستشكل حدثا اعلاميا متميزا مقارنة بالمحاور الثلاثة الاخرى التي اصبحت معتادة غداة الخطاب الرئاسي، وكما كان منتظرا فقد احتل (المحور الرابع) العنوان الرئيسي للصحافة الامريكية، ولو انه لا احد - بما فيه الرئيس وكاتب الدولة - كان بامكانه اضافة شيء اكثر مما قيل في الخطاب. لكن رغم الطابع الهزلي للمشهد، فان (المحور الرابع) دشن (عهد التنمية)، والامر ذو دلالة مميزة لكون الفكرة جرى الاعلان عنها لاول مرة من قبل الرئيس الامريكي. وهذا هو النص المؤسس كما جاء على لسان الرئيس ترومان: رابعا، يجب علينا طرح برنامج جديد طموح، يسخر في نفس الوقت مميزات تفوقنا العلمي وتقدمنا الصناعي من اجل تنمية المناطق المتخلفة، وتحسين ظروف معيشتها. ان اكثر من نصف سكان هذا العالم يعيشون في ظروف شبه بئيسة، تغذيتهم غير كافية وهم ضحايا الامراض، وحياتهم الاقتصادية بدائية وجامدة، كما ان فقرهم يشكل عائقا وتهديدا لهم وللمناطق الاكثر ازدهارا. ولاول مرة في التاريخ اصبحت البشرية تمتلك معارف تقنية وتطبيقية قادرة على التخفيف من آلام هؤلاء الناس. وتحتل الولاياتالمتحدةالامريكية من بين دول العالم مرتبة رفيعة الشأن فيما يخص تطور التقنيات الصناعية والعلمية. ان الموارد المادية التي يمكن توظيفها لمساعدة الشعوب الاخرى محدودة، لكن امكاناتنا من المعارف التقنية - التي لا تكلف ماديا - لا تتوقف عن التطور، وهي موارد غير قابلة للنضوب. اعتقد انه يجب علينا ان نضع رصيدنا من المعارف التقنية رهن اشارة الشعوب المسالمة من اجل مساعدتهم على تحقيق الحياة الافضل التي يطمحون اليها. وبتعاون مع دول اخرى، يجب علينا تشجيع استثمار رؤوس الاموال في المناطق الاقل تطورا والتي تنعدم فيها التنمية. ان هدفنا يجب ان يتحدد في مساعدة شعوب العالم الحرة، لتنتج بجهودها الخاصة مزيدا من الغذاء والملابس وادوات البناء، ومزيدا من الطاقة الميكانيكية للتخفيف من اعبائها.اننا ندعو الدول الاخرى للمشاركة في هذه العملية بامكاناتها التكنولوجية، وسنكون سعداء باستقبال مساهماتهم. وهذا يجب ان يشكل مشروعا جماعيا تتعاون على تحقيقه كل الدول عبر الاممالمتحدة ومؤسساتها المختصة. ان الامر يتعلق بمجهود عالمي لتحقيق السلام والوفرة والحرية. وبمساهمة دوائر الاعمال والقطاع الخاص والفلاحة، وعالم الشغل في هذا البلد، يمكن لهذا البرنامج ان ينمي بدرجة كبيرة النشاط الصناعي للامم الاخرى والرفع من مستوى معيشتها اجمالا. هذه المشاريع التنموية الا قتصادية الجديدة يجب ان تصمم وتراقب لتستفيد منها شعوب المناطق التي ستقام فيها. كما ان الضمانات الممنوحة للمستثمرين يجب ان توازن بضمانات تحمي مصالح الذين سيساهمون بامكاناتهم وعملهم في هذه المشاريع التنموية. لا علاقة للامبريالية القديمة، اي الاستغلال لصالح الاجنبي بنوايانا، ما نرغب فيه هو برنامج تنمية مبني على تصورات لمفاوضات منصفة وديموقراطية. ان كل الدول، بما فيها نحن، ستستفيد بشكل واسع من برنامج بناء يسمح بتوظيف افضل لموارد العالم البشرية والطبيعية. وقد أبانت لنا التجربة ان تجارتنا مع الدول الاخرى تتحسن بموازاة مع التطور الصناعي والاقتصادي لهذه الدول. عهد التنمية هذه هي الاسباب التي تدفع الى اعتبار المحور الرابع بمثابة حدث تدشين عهد جديد. لا يعني هذا ان الواقع تنشئه الكلمات، ولكن ما نقصده هو ان بعض اشكال الخطاب تترجم الواقع في لحظة نشأته بدقة اكبر من الاشكال الاخرى، لان بعض النصوص تستطيع اكثر من غيرها ابراز ابستيمية مرحلة ما. واخيرا وهذا هو البعد الحقيقي للنص فان السلطة لا تكمن بالضرورة في تغيير الواقع بل في اعادة صياغة اشكاليته بصورة مغايرة، وتقديم اقتراحات جديدة موهمة بالتغيير، هذه المعطيات مجتمعة، تسجل لحظة مهمة في عملية التأويل المستمرة لهذا المفهوم المستعار للتنمية. وهكذا فان السلطة الحقيقية تكون دائما في يد من يحسن امتلاك الكلمات. وبالتأكيد، فان تحقيق المعنى الضمني الذي يحمله هذا التفسير الجديد للتاريخ في الواقع سيتطلب وقتا. وكما ان الامر تطلب عشرين سنة لاقناع الرأي العام الفرنسي بصوابية الاستعمار، فسيتطلب كذلك وقتا لابراز (التنمية) كمشروع جماعي للبشرية كلها. ان ازالة الاستعمار ستشكل فرصة لبروز صراعات صعبة، غالبا ما ستحسم بالسلاح بدل الكلمات. وهنا يتطلب الامر ايضا بروز منظمات دولية جديدة كالبرنامج الموسع للامم المتحدة والذي سيتحول فيما بعد الى برنامج الاممالمتحدة للتنمية، وانماط جديدة لتدبير الانتاج قصد عولمته، وتوسيع السوق ليشمل كل الكرة الارضية، وان تفرض فكرة ترابط الشعوب نفسها. ومع ذلك ، وفي فترات محدودة، تم تأكيد استراتيجية شاملة، ورغم انها تخدم اصلا المصالح الخاصة للامة الاكثر قوة في العالم، الا انها تتظاهر بأنها لا تهتم الا بالصالح العام، وتقدم لنا (التنمية) بوصفها مجموعة من التدابير التقنية (توظيف المعرفة العلمية، وتنمية الانتاجية، وتقوية المبادلات الدولية)، ومن ثم توضع خارج النقاش السياسي، الشيء الذي يتيح تضمينها - حسب الامكنة والازمنة - تفسيرات محافظة او ثورية. زيادة على ذلك، فان تعريف (التخلف) بوصفه حالة حرمان، عوض تعريفه بوصفه نتيجة لظروف تاريخية، واعتبار (المتخلفين) مجرد فقراء بدون التساؤل عن اسباب عوزهم، فاننا نجعل من منطق النمو والمساعدة المطروحة بصيغ تكنوقراطية وكمية السبيل الوحيد الممكن. وهكذا، وابتداء من سنة 1949، فان اكثر من مليارين من ساكنة الكرة الارضية، وبدون علمهم في غالب الاحيان، سيتم اعادة تسميتهم، ولن يتم الاعتراف بهم رسميا - إذا جاز التعبير - الا كما يراهم الاخر، وسيرغمون بذلك على الانخراط في التغريب مع احتقار قيمهم الخاصة. لن يعودوا افارقة، ولا آسيويين، ولا امريكيين لاتينيين ، بل (متخلفين) فقط. هذا (التحديد) الجديد تم قبوله من لدن اولئك الذين كانوا على رأس الدول المستقلة، لانه كان احد الاساليب لتأكيد الرغبة في الاستفادة من (المساعدات) التي ستؤدي الى (التنمية). وبالنسبة للشعوب المستعمرة، فقد كانت هذه هي الوسيلة الممكنة لاثبات المساواة القانونية التي كانوا محرومين منها. ويبدو ظاهريا ان هذه الشعوب ستكسب كل شيء : الاحترام والرفاهية، لكن حق الاختيار الحر للتنمية تم استبداله بحق تقرير المصير. وبالحصول على الاستقلال السياسي، فقدوا هويتهم واستقلالهم الذاتي الاقتصادي لانهم ارغموا على السير في (سكة التنمية) التي رسمها الآخرون. وبخلاف الاستعمار الذي كان يعتبر العالم فضاء سياسيا في الاصل، حيث المطلوب بناء امبراطوريات اكثر اتساعا، فان عهد (التنمية) هو عهد الاكتساح الشامل للفضاء الاقتصادي الذي سيشكل فيه نمو الناتج الوطني الخام اولى الاولويات.