البحث عن تكاليف إنتاج أقل والاقتراب من الأسواق الجديدة، هما السبب الرئيس الذي دفع الشركات الكبرى السويسرية إلى الاتجاه نحو دول في شرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا وحتى الولاياتالمتحدة.هذه المبررات منطقية من منظور رأس المال الحر، إلا أن توابعها الإجتماعية والإقتصادية كبيرة، لا سيما مع تزايد عدد الشركات التي بدأت منذ عام 1990 في تحويل كامل خطوط إنتاجها أو جزء كبير منها إلى خارج سويسرا. واللافت للنظر - حسب الدراسة التى اعدها معهد تقنية الإدارة التابع لجامعة سان جالن الاقتصادية - أن هذا التوجه لم يعد يقتصر على المؤسسات الصناعية الكبرى أو الشركات المتعددة الجنسيات، بل اتسع ليشمل أعدادا متزايدة من الشركات الصغرى والمتوسطة، وهنا مكمن الخطر حيث أن هذه الفئة من المؤسسات هي التي تشكل فعليا عصُب الحياة الصناعية في سويسرا. ويرى البروفيسور إيلغار فلايش، أحد المشاركين في بلورة وإعداد الدراسة، أن تأمين الحضور القوي في الأسواق الجديدة يمثل عاملا آخر يدفع بالشركات الصناعية إلى مغادرة سويسرا وطبقا للدراسة فإن مجالات التقنية الإليكترونية الدقيقة والماكينات والصناعات الكيماوية والصيدلانية، هي في طليعة التخصصات التي تتجه إلى الخارج، وذلك بزيادة بلغت 25% ما بين عامي 1990 و 2004. وتتوقع الدراسة أن ترتفع تلك النسبة إلى 75% في صفوف الشركات الكبرى والمتوسطة و60% في الأخرى الصغرى، لا سيما وأن الشركات التي أقدمت على تلك الخطوة ترى أنها ناجحة وهامة. ويقول يوست غيغينات وهو خبير استراتيجي يعمل في أحد المكاتب الاستشارية المتخصصة: إنه لم تظهر حتى الآن أية توجهات من تلك الشركات للعودة إلى سويسرا أو تحويل مكان الإنتاج الذي حطت فيه رحالها. فالدراسة تشير إلى أن مجموعة الشركات التي يزيد عدد عمالها على 500 شخص ولها إلى الآن 14 وحدة إنتاجية في شرق أوروبا، تسعى إلى زيادة تواجدها لتصل إلى 80 وحدة، أما الشركات التي يقل عدد عمالها عن هذا الحجم فلها إلى الآن 9 فروع انتاجية في نفس المنطقة الجغرافية وسترتفع إلى 47، في المستقبل المنظور.وقد قسمت الدراسة مناطق الاستقطاب الجديدة إلى مجموعتين هامتين: الأولى تضم دولا من شرق أوروبا وهي بدورها تنقسم إلى منطقتين، واحدة تضم الأعضاء الجدد (بولونيا وتشيكيا والمجر وسلوفاكيا وسلوفينيا وأستونيا وليتوانيا ولاتفيا) في الاتحاد الأوروبي اعتبارا من 1 مايو 2004، وتتميز بموقعها الجغرافي وبقربها من سويسرا، وسهولة النقل منها إلى بقية الأسواق، ومجموعة أخرى متاخمة لحدود روسيا مثل أوكرانيا وبلغاريا ورومانيا،والتي تنخفض فيها أسعار الخدمات والأيدي العاملة بشكل كبير، مع وجود العمالة المدربة أو التي من السهل إعادة تأهيلها للتعامل مع تقنيات التصنيع المتطورة.وقد تمكنت تلك الدول، حسب الدراسة، من استقطاب شركات صناعية كبرى من مختلف دول العالم، فعلى سبيل المثال، نجحت العاصمة السلوفاكية براتيسلافا في اجتذاب شركات صناعة سيارات ألمانية وفرنسية بل ويابانية إليها، وضمنت استثمارات في هذا القطاع تصل إلى 2.8 مليار يورو حتى عام 2008.أما الصين فقد جذبت تلك الشركات إليها بسبب النمو الاقتصادي الكبير، والتغير الملحوظ في سياستها في التعاون مع المؤسسات العالمية الكبرى، الذي شهدته في السنوات الأخيرة وتوفر العديد من المواد الخام، إضافة إلى وجودها في قلب سوق ضخمة جدا. ويشير الباحث الاستراتيجي برند لوسر المشارك في إعداد تلك الدراسة وفي الندوة التي قدمت نتائجها إلى الرأي العام، إلى أن تحويل الانتاج الصناعي إلى تلك المناطق يتطلب مقومات مختلفة، إذ لا بد للشركة من أن تكون لها استراتيجية واضحة المعالم في التصنيع والتسويق، فوجود الأيدي العاملة الرخيصة ليس كافيا لضمان نجاح تلك الشركات هناك، وينصح الباحث الشاب الشركات الراغبة في مغادرة سويسرا بضرورة وضع سيناريوهات مختلفة لبرامج عملها الإنتاجي في الدول الجديدة، تتعامل مع مختلف الاحتمالات التي يمكن أن تواجهها هناك، وإلا فإنها ستمنى بالفشل الذريع، إذا اعتمدت فقط على اللجوء إلى تكاليف الانتاج الرخيصة..ويبدو أن هذه النبرة غير المتفائلة بدأت تلقى صدى لها في أوساط العديد من المراقبين الاقتصاديين، بعدما رأوا تحذيراتهم تتحول إلى حقائق، سواء من خلال لجوء الشركات الكبرى إلى تقليص الأجور دون اعتراضات جدية من طرف النقابات (مثلما حدث مؤخرا في ألمانيا)، أو عبر ترحيل خطوط الإنتاج إلى الدول ذات المستويات المعيشية المنخفضة، مع وجود منافسين قادرين على توفير منتجات رخيصة بنفس المعايير الأوروبية.ومن المؤكد أن صيحات التحذير التي يطلقها الخبراء أمام هذه الطفرة في أسواق العمل والصناعة لن تتوقف قريبا، لأنه ليس من المستبعد حسب رأيهم أن تتحول سويسرا تدريجيا إلى موناكو ثانية لا تقدم سوى الخدمات المالية والمصرفية وأماكن الترفيه والسياحة؟!.