قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر يوماً إن إسرائيل تملك فقط سياسة داخلية، ولا تملك سياسة خارجية مطلقا. وإن كان من الصعب على المرء أن يقبل توصيف كيسنجر للسياسات التي توجه الحكومات الإسرائيلية بشكل مطلق، إلا أن قرار حكومة أرييل شارون مؤخراً بالمصادقة على خطة "فك الارتباط" يدعم الاستنتاج الذي توصل إليه أشهر دبلوماسي أميركي. فمصير هذه الخطة أصبح أكثر غموضاً بعد إقرارها في الحكومة، وذلك بعد أن أملت التجاذبات الداخلية في الحكومة وفي الحلبة الحزبية الإسرائيلية على شارون القبول بإدخال تعديلات على الخطة تجعل تطبيقها في النهاية رهن الحسابات الخاصة للساسة الإسرائيليين، مع العلم أن حوالي 80% من الإسرائيليين يؤيدون الانسحاب من قطاع غزة، ومع أن شارون يقدم هذه الخطة على اعتبار أنها الطريقة الأمثل لانفراد الدولة العبرية بالضفة الغربية مرة وللأبد. ونحن هنا بصدد مناقشة التناقضات التي اشتمل عليها قرار المصادقة على الخطة واختبار إمكانية تطبيقها في ظل هذه التناقضات، إلى جانب تأثير إقرار الخطة على استقرار الائتلاف الحاكم ووحدة حزب الليكود الحاكم، فضلاً عن مناقشة قيمة المبادرة المصرية في ظل الرهان الإسرائيلي المعلن على خطة "فك الارتباط".على الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية قد أقرت أنه بنهاية عام 2005 لن تكون هناك مستوطنات ومواقع عسكرية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، إلى جانب تفكيك أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، إلا أن حكومة شارون شددت على أن قرارها هذا لا يعني المباشرة بتفكيك المستوطنات، وأنه سيتم تأجيل عملية تفكيك المستوطنات حتى مارس من العام المقبل. وحتى يتم ربط تطبيق قرار الحكومة هذا بالتجاذبات السياسية داخل حكومة شارون والحلبة السياسية الإسرائيلية بشكل عام، فقد شددت الحكومة على أنه قبل الشروع بتطبيق الخطة، فإن الحكومة ستجري نقاشات مكثفة تنتهي بتصويت آخر داخل الحكومة على مستقبل الخطة، وبإمكان الحكومة نفسها أن ترفض تطبيق الخطة.واشتمل القرار على بند يرسم المزيد من علامات الاستفهام حول جدية الحكومة بتطبيق الخطة، إذ إن الحكومة أقرت بضرورة تشكيل لجنة لدراسة تقديم موازنات لدعم المستوطنات المرشحة للإخلاء في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. فهل يعقل أن تستثمر حكومة في مشاريع داخل مستوطنات تعتزم إخلاءها!!. وهناك نقطة بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة الخطة المعدلة، فهذه الخطة تتحدث عن تفكيك المستوطنات على أربع مراحل. وقبل تنفيذ أي مرحلة من هذه المراحل يتوجب على الحكومة أن تجتمع بكامل هيئتها للتصويت على تنفيذ هذه المرحلة. من هنا فإن تأجيل تنفيذ تفكيك المستوطنات إلى مارس المقبل، فضلاً عن إخضاع التطبيق المتدرج للخطة للتصويت مجدداً في الحكومة يستدعي مزيدا من العوائق في طريق تنفيذ هذه الخطة، بالذات وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين قد أرسى قاعدة هامة في تعاطي الحكومات الإسرائيلية تجاه التزاماتها مع الجانب الفلسطيني، حيث قال رابين "لا مكان للمواعيد ...".ولا يوجد أدنى مبرر يدعو المرء للاعتقاد بأن شارون أو أي سياسي آخر في الدولة العبرية يمكن أن يتصرف على نحو مختلف. انضمام حزب العمل ومصير الخطة بعد انسحاب حزب الاتحاد الوطني من حكومة شارون، إثر قيامه بإقالة ممثلي الحزب في الحكومة أفيغدور ليبرمان وبني إيلون، فإن حزب المفدال الديني الوطني يوشك الآن على الخروج من الحكومة.وبخروج "المفدال" من الائتلاف فإن حكومة شارون تصبح حكومة أقلية تفتقد للأغلبية البرلمانية التي تحفظها من السقوط لدى التصويت على قوانين حجب الثقة في الكنيست. وإن كان حزب العمل قد تعهد بتوفير شبكة أمان لضمان عدم سقوط حكومة شارون بسبب خطة "فك الارتباط"، فإن شارون يعي أن حزب العمل لن يوفر هذه الشبكة بشكل تلقائي. من هنا فإن شارون ومن أجل ضمان استقرار حكومته، يدرك أن عليه أن يضم حزب العمل لائتلافه الحاكم. وهناك الكثير من الدلائل التي تؤكد أن كلاً من شارون وزعيم حزب العمل شمعون بيريز يعكفان على الإعداد لضم "العمل" للحكومة.لكن هذا السيناريو يفتح الباب على مصراعيه لحركة تمرد كبيرة داخل حزب الليكود ضد شارون. فعلى المستوى الشخصي، فإن ضم حزب العمل للحكومة يعني أن عدداً من الوزراء الهامين لليكود في الحكومة سيضطرون لإخلاء مقاعدهم الوزارية لصالح وزراء جدد من حزب العمل.ولا يختلف اثنان على أن ذلك سيكون وصفة لانفراط انضباط كتلة الليكود في البرلمان، بحيث ينضم عدد من نواب الليكود للمعارضة في التصويت ضد الحكومة وإسقاطها، وهناك الكثير من السوابق التي تؤكد أن مثل هذا السيناريو حقيقي. والذي يجعل مثل هذا السيناريو منطقيا هو الضغوط المكثفة التي يبذلها أعضاء اللجنة المركزية لحزب الليكود ومنتسبي الحزب بشكل عام على نواب الليكود ووزرائه من أجل التصويت ضد تطبيق الخطة لدى جلب الخطة مجددا للتصويت. وهنا يتوجب أن نشير إلى أن كلاً من وزراء ونواب الليكود يبدون حساسية كبيرة لتوجهات أعضاء اللجنة المركزية للحزب، لأن هؤلاء الأعضاء هم الذين ينتخبون قائمة مرشحي الحزب للكنيست، وهم الذين يضغطون من أجل تعيين الوزراء. من هنا لا يعني ضم حزب العمل للحكومة طوق نجاة لشارون وخطته بشكل نهائي.أن انضمام حزب العمل للحكومة لن يتأتى إلا في حال أصدر المستشار القضائي للحكومة قراراً يمنع بموجبه تقديم لائحة اتهام ضد شارون بسبب الشبهات حول تورطه فيما يعرف بفضيحة "الجزيرة اليونانية". المفارقة أن القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي قد أكدت أن وزراء الليكود الذين يحاولون إقناع حزب المفدال بالبقاء في الحكومة، من أجل قطع الطريق على انضمام حزب العمل، يؤكدون لقيادة "المفدال" أنه على الرغم من مصادقة الحكومة على خطة "فك الارتباط"، فإنها في النهاية لن تنفذ!! تقديم الانتخابات أو حكومة يمين بزعامة نتنياهو هناك الكثير من المراقبين في إسرائيل يؤكدون أن شارون يعي وضع حكومته الحرج سواء بضم حزب العمل أو بدون ذلك، وهو لا يستبعد أن تسقط حكومته حتى قبل إكمال تطبيق خطة "فك الارتباط". وسائل الإعلام الإسرائيلية أشارت أكثر من مرة إلى أن مكتب شارون فحص إمكانية أن يبادر هو شخصيا إلى سن قانون في البرلمان يسمح بتقديم موعد الانتخابات. لكن السؤال الذي يطرح حاليا هو على رأس أي حزب سيتنافس شارون على رئاسة الوزراء؟؟!لا يمكن لأحد أن يتوقع أن يخوض شارون الانتخابات على رأس حزب الليكود، إذ ان هذا الحزب هو الذي أحبط منتسبوه خطة "فك الارتباط" عبر الاستفتاء الذي أجري مؤخراً. الليكود لا يمكنه أن يسمح لشارون بإجراء أي تغييرات على البرنامج السياسي للحزب الذي يرفض مبدأ تفكيك المستوطنات من الضفة الغربية وقطاع غزة.على ما يبدو فإنه في حال تقديم موعد الانتخابات على خلفية الجدل حول خطة "فك الارتباط"، فإن شارون سيخوض الانتخابات على رأس قائمة تضم حزبي "شينوي" و"العمل" و"معتدلي" الليكود، بحيث تكون خطة فك الارتباط هي أساس البرنامج السياسي للقائمة الموسعة. لكن هناك من يعمل على إحباط تحقيق هذا السيناريو من أجل القضاء على مستقبل شارون السياسي. فوزير المالية ورئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو الذي لا يخفي طموحه في خلافة شارون في زعامة الليكود ورئاسة الوزراء يعمل بصمت على جمع تواقيع 61 نائبا في الكنيست على وثيقة ترفض تقديم الانتخابات إذا سقطت حكومة شارون في تصويت بحجب الثقة عنها. وهذا يعني أن شارون سيكون مضطرا للتنحي، ويترك المجال لحزب الليكود لاختيار خلف له في زعامة الحزب ورئاسة الحكومة، على اعتبار أنه الحزب الأكبر في البرلمان، وحينها سيكون نتنياهو هو الأوفر حظاً. @@ ترنتو استار