ختمت الكاتبة نهاية عملها بقولها (كتبتها الراجية رحمة ربها مها أذهب الله عنهاالغفلة والأسى). وفي هذه العبارة ثلاثة أمور، رجاء رحمة الرب الكريم، وسؤاله ذهاب الغفلة، وذهاب الأسى. وهذه الأمور تكون حضورا يفسر كثيرا من سرديات هذه الرواية ففي الرواية خطاب يجافي دناءات التهالك الانساني، ويصعد الى آفاق تتلاشى عندها الأنانية والتملك، والتسلط ولعل العبارة الطويلة التي تأتي ص104 في حديث سيدة السماء لفارس (الحي لا يحبس، والحر لا يستعبد، تعرف يا فارس أن كل عضو لك يمكنه أن يستعبد بل هو حبيس حتى تطلقه، والعاقل من البشر من يمضي عمره في تحريرهم، أما لو أنك تمكنت من القلب لانفكت باقي الأعضاء تباعا، فترى وقتها بعين الحر، وتمشي برجل الهميم، وتصافح براحة الكريم، وتتكلم بلسان العليم، وتتشنف أنغام المنتهى، وتنتشي عطور السكينة، وتكون لك مذاقات الخير كلها).. لعل هذه العبارة تكشف عن الهاجس الذي أرادت الكاتبة أن تكون رحلة أحداث شخوصها نحوآفاقه، لتنطق به الأحداث والمشاهدات، ولقد سيطر ذلك على هذا العمل حتى انه أحيانا كثيرة يشرح الهدف من هذه الحكاية أو تلك، وتستدعي أحداث من أجل احداث حكاية تنطق بالأفكار المراد بثها. بداية العمل مثيرة وقوية، تبدأ بفقرة سردية مكثفة تحتضن أبعاد التفاصيل السردية القادمة، تقول الفقرة (أبصرت طريقا ثم أضعته، فكأنما شيء من خيال جال في خاطري لأتبعه، بيد أن الحقيقة تنأى وأناسائر جواب أحلام) ص5، السير في طريق نحو بلوغ هدف قضاء من النص على أكثر شخوصه، ابتداء من الشخصية الرئيسية (فارس). مضى في البحث عن كتاب سلي ثم توالدت حكايات بحثه عن الأهداف التي تتراءى له في رحلته الطويلة، وفي حكاية الملك جامع الورد، وفي حكاية سعد الماضي، وغيرهم. وهذا الجولان في الخاطر كان من الحيل السردية في العمل، اذ كثيرا ماينطق في هذا النص ماكان ليس بناطق، وكثيرا ماتبدو حركة العوالم ذات حركة نابعة من رؤية شخصية من شخصيات السرد مثل (أما الفتاة فنظرت الى السماء الملبدة بالغيوم، فبدت لهاأشعة الشمس كطريد يتحايل، فيراوغ السحب المانعة هربا الى الأرض) ص45، ومثل (إذا بهاتف يهتف: ان الورود التي لم تزهر في القلوب أولا لابد لها وأن تنقلب الى اشواك.. فما عرفت لحظة راحة بعدها) ص27. تبدأ الرواية بحلم فيه صلاة على ميت، وعدم رؤية له، ثم رؤية للنعش.. ثم رمي السارد بحفنة من التراب، ليقول له ذلك المصلي انها: الحقيقة.. وتنتهي بقبض توبة قبضة من التراب ليقول: أنت في حلم.. هذه الحقيقة ورماني بها.. وما بين البدء والنهاية تتجلى مكاشفة ارادة الحياة للموت بكل ما يعنيه من سلبية في موت الضمير، والانانية، والرضا بالذل والاهانة.. تبدأ رحلة السارد خروجا من البلادةوالحمق الذي اكتنفه من جهة الزوج والأبناء وطلبا لتفسير ذلك الحلم الذي يردد بعده: طول اجتراحي السيئات.. فتأخذه الاحداث التي كونت عالم هذا العمل. عنوان العمل (توبة وسلي)، والاسمان يدلان على شخصيتين مختلفين، وليست بينهما علاقة مباشرة في سياق الأحداث، فسلي هي جارية مراد (القبطان) الذي دفعه تساؤل فارس عنها الى أن يقذفه في البحر، فيصعد الى القارب ثانية، ليدخل لحجرتها فيجد سجادا به صور لنساء ورجال.. وكل من ظهر فيها قد بدا على وجوههم علامات الحزن والأسى.. ليتحدى فارس مراد في اطلاق طير ترابي اللون فيبحث فارس عن المفتاح، ويجد خمسة كتب يأخذ أجملها الذي قد رسم عليه وردة ما رأى مثلها قط، ليقرأ منها عدة حكايات، ثم يكون اختلاس الكتاب وبحث فارس عنه، ليعود، ويجده قد عاد لسلي. أما توبة فتبدأ حكايته بغربة يدفن قتلى يحس بكرامتهم وطهرهم ويذكر انهم قتلاه، ويرقبه فارس بعد أن رفض مساعدته، فيغشى على توبة من الارهاق فيضع من تحت رأسه العمامة ويزمله بالعباءة ويعرف اسمه من سيفه ويبدأ حوار بينهما يعرف فيه توبة طرفا من حكاية فارس ويبقى سره ثم تمضي الأحداث ويجد فارس ان الكتاب قد عاد لسلي. بعدها لا يعود فارس الى اهله ولكنه يعود الى توبه الذي كان يدفن قتلى بسبب رباب التي كان يحبها اخوه عبدالله الذي مات مع صحبة توبة في الخلاء بعد القتل الذي استمر بين عشيرته وعشيرة اخرى. وتوبة شخصية على ما فيها من ورع وتقوى وتضحية فهي ضحية الحماقة البشرية، وروح القتل التي استدعت طقسا للقتال بين العشيرتين فهل توبة يمثل الوجه الآخر لسلي وجه من تسلبه الحياة مسيرته مع الناس الى العزلة والى لم جثث الاموات.. مقابل وجه سلي الذي يحبس الاحياء في نسج من زينة؟؟ اظن الناتج في محصلة الامر هو انعزال وانكفاء وتوحد وطلب العوض باشعال الحب، والسياحة في ملكوت العالم.. كان توبة هو الهدف بعد سلي لان توبة انطلاق الى الملكوت الارحب، وسلي حكايات تروى وتنسج.. ولكنها ايضا انعتاق من صلادة الضرورة، والتهالك، والصراع الذي يكتنف عوالم الحياة. والرواية كما اشرت يسيطر عليها الحس التعليمي اذ كثيرا ما يلتفت السارد ليعلق على الاحداث، او ليقدم بين يدي الحكاية وينسج حكما ويروي مقولات مثل: انه عندما تولد فتاة في الارض تزهر وردة في الجنان ص26. ان حياة القلب في غير رغبته التي تجعل القلب يرتعد متلهفا دون سكون.. قلقا.. عجلا.. اما الحب فيبقي القلب خضرا رقيقا متأملا ص28. لكن الرواية استطاعت بمزجمها بين هذه العوالم الغريبة وبانطلاقها من عالم الواقع الذي خرج منه السارد وهو يبحث عن اجابة لحلم حاولت ان تحلق في عوالم جديدة بدأت تراودها السرويات العربية مثل ما هو عند احمد ابراهيم الفقيه ورجاء عالم.... وقد تبدى في هذه الرواية: @ قراءة البشري في افق المتعالي. @ تأويل الشخصيات لظواهر الاشياء. @ وضع حركة السرد امام سلطة النص. @ وضع الاسرار امام حركة الشخصيات. @ قراءة البشري في افق المتعالي يقصد بالمتعالي هنا ما علا فوق قدرة البشر او فوق ادراكهم كما يظهر من الحديث عن ملء الرجل الذي كان ساجدا الافق لدى استوائه، وتحرك الرمال عصفا ثم يسارا حين همس بالسلام، ومثل: وقفت جواره وهبت نسمة محملة بعبير الليل الصافي والانجم بدت قريبة كأنها فوانيس علقت فكادت تلمس رؤوسنا عند وقوفنا (ص130) ولا رفع يده نحو السماء امسك بنجمة تتلألأ في كفه ثم القاها في حجري وكما في سيدة الاصوات، وسيدة الظلال وكما حدث في لمس الفتاة لسطح الماء ما جعل الماء يضطرب والطائر يختفي ويرسل صوتا كالرعد ليقول (لقد انهيتما نشوة تحليقي). تأويل الشخصيات لظواهر الاشياء اعتد النص تأويلا لحركة الاشياء وعوالم الموجودات يتفق مع التكوين الذي اراده لهذه الشخصية او تلك في اطلاق قدراتها وفق تكوينها النصي، كمثل ما كانت تحكي سيدة الاصوات عن الرجل العجوز الذي احب الصمت، فاذا به يقول: (انا صخر) ليتسم عند تأمل الحصى الذي يتناثر في الاودية فيخطر نفسه ما هي الا دموع منسية اما الجبال فلربما كانت اصداء لاحزان جمدت فوق وجه الارض ص 57 وكما في تأويل السارد لاشجار الصحراء وما فيها من انحناء الجذوع واعوجاج الاغصان وحرقة الشمس لها وورقها الشوكي بانها دائمة البحث لتلتقط قطرات الحياة, مبدية قبحها لخالقها وكأنها تقول غفرانك ربي يشفع لهذا النقصان صدق خضوعي. ص57 وهذا الامر نابع من عالم الخفاء الذي اتجه اليه السرد في بحثه عن اجابة الحلم, ويشبان بطوق الرواية الى خلق حركة في العالم تجاوز البلادة والرتابة الى ادراك الأسرار, والظهور للتجليات والتوق الى عوالم النور والألطاف, هي الحركة من عالم المعصية الى عالم الطهر, ومن عالم الأنانية والاثرة الى عالم الصفاء, ومن عالم الشقاء الى عالم السعادة, ومن الشعور بالحزن والأسى الى مكابدة الهم واحالته الى سعادة وطهر, وهما ايضا مآل الرحلة, ومبتغى كل حكاية من مثل (ترك كل شيء هذا الرجل وكل الناس واهتم ان يغلق ابواب التعلق كلها) ص56 لكن كل ذلك يبقى حالة مثالية ومنفصلة, عن مكابدة الواقع, بل انه احيانا يخفي ما في عالم السرد من تسلط واثرة وانانية ليحيل تفسير ذلك الى العالم الخفي كما في تسلط مراد على فارس ولطمه وشجه, ومع ذلك تجد فيه سلي البشر على الرغم مما يظهر فيه من تغطرس وعدم لطف.. ذلك لأن السرد في هذه الحالة غير مهتم بتضاريس الحياة قدر اهتمامه بتزيين الالطاف, والتأويل, وسعادة الرضا, وجعل كل حكاية راسمة لمآل او مزينة للطف, او شارحة لحدوث نعمة بعد نقمة او شقاء بعد سعادة ولذلك كنا منذ بدء النص امام خفاء يحتاج الى بحث واجابة, وان كانت حالة الخفاء هذه مرتبطة بازالة المعصية, وطلب الخروج من البلادة والحمق. وضع حركة السرد امام سلطة النص منذ البدء نحن امام تفسير غيبي, وامام نص يتراءى حضوره في كتاب سلي الذي يقرأ منه الأحداث, وتتجه الحكاية الرئيسة للبحث عنه دون ان يحدث حركة تفاعل بين عالم السارد وعالم الكتاب, فعالم السارد فارس ما هو الا باحث عن الكتاب ومجتهد في رده الى مكانه, وما في الكتاب يتفلت قراءة دون ان يسمع فيه السارد شيئا, فكأن السرد مستسلم لما تكون واصبح جاهزا في هذا الكتاب, لا ينطق الا بما نطق وتظل حركة السارد البطل بعيدة عنه, حتى ان الكتاب ليمضي في غفلة منه, ويعود الى مكانه في غفلة عنه.. وهذه الحركة جعلت قص الكتاب متعاليا عن عالم السرد, يعطي رسائله, ويقذف بأفكاره وحكمه دون ان يلامس حركة الواقع المتمثل في السارد. مع ملاحظة ان تكوين عالم الكتاب الذي كونته الروائية بطبيعة الحال يستحضر حالا معاشا يرتقي بالذوق عن الامتلاك والاستحواذ كالفرق بين النظر الى الورد وزهور الخوخ ص 72, لكن ذلك جاء في انفصاله عن عالم الواقع وكأنه متكون من عالم خيالي مثالي وجاءت الشهادات النصية الكثيرة التي تحملها الرواية مؤكدة لسلطة النص لمتكون حيث اضحى يقدم ذلك النص الاستشهادي من خلال وعي الذاكرة به حتى ولو كان غير مضبوط وفق اصله حيث جاء بعض هذه الاستشهادات مختل الوزن, لكن هذا الاستشهاد يشير بطبيعة الحال الى استمرار نص الرواية لسلطة الثقافة, حيث تأتي هذه النصوص تأكيدا لحالة دون ان يعمل النص الجاري على تفتيت سلطتها. *ورقة نقدية قدمت لجماعة حوار بجدة