استطاعت محاضرة "اللغة العربية وتحديات العصر" التي قدمها الدكتور أحمد بن محمد الضبيب، في قاعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، أن تطرح عشرات القضايا والأسئلة ذات العلاقة بهموم اللغة العربية وتراجعها أمام سطوة اللغة الأخرى التي لم يكن لها أدنى دور، وأصبحت جزءاً فاعلاً في نسيج الثقافات الإنسانية. ففي هذه المحاضرة التي أدار الحوار لها الدكتور محمد بن حسن الزير، كان هناك ما يشبه الإجماع على أن لغتنا العربية تمر بمأزق خطير، وتعاني من هزيمة نفسية في مقابل اللغات الأخرى، وقد بين د. الضبيب الكثير من الجوانب التي أدت إلى تراجع دور اللغة في حياتنا. سياسات لغوية وفي معرض حديثه عن السبل التي يمكن بها الدفاع عن اللغة وحمايتها قال د. الضبيب: أن الدفاع عن اللغة وحمايتها لا يكون عن طريق التوصيات العامة التي تصدرها بعض الجهات المعنية باللغة، أو تخرج من قاعات المؤتمرات التي تعقد لهذا الغرض ثم تظل حبيسة الأدراج لا يستطاع تنفيذها بفعل غلبة التيار المعاكس عليها أو انعدام الوعي بأهمية اللغة في الحياة وتأثيرها على الهوية، وإنما يكون بتبني وسائل ناجعة أخرى تعيد للغة مكانتها في وجدان الجماهير. وضرب الدكتور الضبيب مثالاً بتجربة فرنسا في هذا الجانب وقال: لقد اتخذت الدول الحية إدراكاً منها لأهمية اللغة في تكوين شخصية الأمة سياسات لغوية ألزمت بها نفسها، وحفظت فيها اللغات من العبث، وانطلقت من خلال هذه السياسات لتكوين المؤسسات التي تخدم اللغة، وإصدار التشريعات القانونية التي تلزم باستخدامها في التعليم وسوق العمل والإعلام والحياة العامة، فالأكاديمية الفرنسية تقوم بالشق العلمي مما يتصل بالسياسة اللغوية، وتقوم الوكالة العامة لصياغة المصطلحات بصك المصطلحات البديلة للمصطلحات الانجلوسكسونية، وتنشر هذه المصطلحات في الجريدة الرسمية، كما يطلع عليها بوساطة الاتصالات "المينيتيل" وتقوم المنظمة الفرانكفونية بالترويج للغة داخل البلاد وخارجها، وتقوم الجهة التشريعية بإصدار القوانين والتعليمات المتعلقة باللغة، وتقوم الجهات التنفيذية المتعددة بالمراقبة وتطبيق القوانين بدقة. تجربة اليابان وأضاف د. الضبيب مثالاً آخر يتمثل في تجربة اليابان، التي يقوم فيها المجلس الوطني بهذا الدور، وهو يسمى المجلس الوطني للغة، ويتكون من خبراء لغويين، وتطبق قرارات هذا المجلس من قبل مجلس الوزراء فيما يخص الإدارات الحكومية، كما أوضح دكتور الضبيب خاصية مهمة فيما يتصل بالجانب العربي حيث قال: أن من المعروف أن معظم الدساتير العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، لكن هذه العبارة المهمة في مغزاها لا تؤيد بأي جهد تنفيذي. قوانين لغوية ومن المعروف أن بعض البلدان العربية قد أصدرت قوانين تتعلق بوجوب استعمال اللغة العربية في المكاتبات واللافتات مثل القانون (115) لسنة 1958م في الجمهورية العربية المتحدة، ومثل نظام الأسماء التجارية في المملكة العربية السعودية، إلى جانب قرارات من مجلس الوزراء بضرورة مراعاة الكتابة باللغة العربية في جميع المصالح العامة والخاصة، وقرارات أخرى من جهات أخرى، لكن المشكلة لا تكمن في إصدار القوانين والأنظمة، وإنما في تطبيقها. مداخلات حادة ومع أن ورقة الدكتور الضبيب تطرقت بشكل منهجي إلى القضية من زواياها المختلفة، ورصدت العديد من الأسباب التي أدت إلى فقدان فاعليتها، والأسباب التي يمكن- أيضاً- من خلالها أن تعود لوهجها الذي لم يعد كما كان، إلا أن الأسئلة والمداخلات كانت أكثر حدة وكشفاً وصراحة في ملامسة الجوانب التي أضاءتها ورقة د. الضبيب، وكانت المداخلات التي شارك فيها د. عوض القوزي ود. حمزة المزيني محركاً أساسياً في الندوة، فقد حملت مداخلة الدكتور عوض القوزي بعداً درامياً مأساوياً موجعاً، فقد تطرق بنبرة تسيطر عليها غصة الأسف والألم إلى حال اللغة العربية وما وصلت إليه في جامعاتنا العربية، وفي حياتنا الاجتماعية، وتداخل الكلمات الغريبة فيها، وسخرية العرب أنفسهم من الذين يتحدثون بالفصحى في واقع تسيطر عليه اللهجات المتعددة. بينما رصدت المداخلات الأخرى، ظاهرة تداخل بعض المفردات الإنجليزية وغيرها مع اللغة العربية كشكل من أشكال التباهي بمعرفة اللغات الأجنبية، أو إشعار الآخرين بالتحضر المزيف، وكذلك سوء حال الترجمة العربية من اللغات الأخرى، والعكس. أسئلة ضرورية وكانت هناك أسئلة حول ضرورة تجديد اللغة وتطوير مفرداتها بالصيغ التي يمكن التواصل معها،خصوصاً وأن هناك من المفردات التي استخدمها الشعراء العرب القدامي، مالا يستطيع الإنسان الآن استخدامه في الحياة اليومية، نظراً لصعوبته وعدم معرفة الناس به، وفي هذا السياق ضرب أحدهم مثلاً بمعلقة طرفة بن العبد مؤكداً أنه لا يستطيع فهم ثلاثة أرباع المفردات الموجودة فيها، وأن الحرص على فهمها يستدعي اللجوء إلى قاموس. تعليم اللغة في الجامعات أيضاً كانت من النقاط المهمة التي كشفت عنها المحاضرة في تداخل الحضور مع ما جاء فيها، نقطة تركز على ضرورة وجود أقسام في الجامعات لتعليم اللغة العربية، ففي الوقت الذي توجد فيه أقسام لعلوم اللغة، لا توجد أقسام لتعليم اللغة نفسها، وهو الأمر الذي جعل العديد من طلاب الجامعات لا يعرفون شيئاً عن لغتهم التي يتحدثون ويدرسون بها، والتي هي فوق كل ذلك خيار الهوية لكل العرب، خصوصاً إذا أدركنا أنه من أسباب انتشار اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، هو أن هناك أقساما لتعليم اللغة الإنجليزية بغض النظر عن وجود أقسام لعلومها. دور المجامع العربية وفي ختام المحاضرة، أشار الدكتور الضبيب إلى دور المجامع العربية، وضرورة تعاون أو تفاعل الدور السياسي مع الدور اللغوي، حيث قال: أن مجامع اللغة العربية، خاصة في مصر وسوريا، بدأت قوية، لكن دورها تراجع بعد الهزائم التي تعرضت لها الأمة العربية في السنوات الأخيرة من تاريخها، فلم يعد هناك من يسمع لهذه المجامع، فوصل الأمر بها إلى الاكتفاء بالتوصيات، حتى أصبحت عاجزة عن القيام بدورها. وقال د. الضبيب: ما لم يتعاون السياسي مع اللغوي فلن تتقدم اللغة، ولن تتجاوز محنتها. د. حمزة المزيني