ما الفرق بين (محمد الدرة) في فلسطين.. و(وجدان) في الرياض.. لا فرق.. الأول مات شهيدا على يد جنود الاحتلال.. والثانية ماتت شهيدة أيضا ولكن على يد أعداء الحياة. الأول مات في حضن أبيه أمام أنظار العالم.. والثانية ماتت وهي تلعب بحماماتها.. بريئة طاهرة.. لا تعرف من دنس الدنيا شيئا.. الأول مات ونحن والعالم نعرف لماذا؟ أما وجدان فجميعنا نصرخ.. بأي ذنب قتلت؟ خفافيش الظلام قتلت طفولتها البريئة.. وأدوا حلمها في أن تكون طبيبة عندما تكبر وتضمد جرح البشر بيديها وتداويها.. خفافيش الظلام لم يرحموا أما ثكلى ستظل يبكي قلبها طوال العمر على فلذة كبدها التي راحت في غمضة عين.. وبدم بارد! أعداء الحجر والبشر لم يعرفوا أن (وجدان) صاحبة أطيب قلب تلعب في الفناء الخلفي بمنزلها وقت الانفجار. لم يعرفوا أنهم سيقتلون وردة طاهرة.. وسيأججون النار في قلوبنا عليهم جميعا واننا سنظل نلعنهم على أفعالهم حتى يوم الدين. تحت أي دعاوى تقتل طفلة هكذا.. تحت أي شعارات.. لقد أسقطت (وجدان) القناع الزائف الذي يرتديه القتلة.. وشاء القدر أن تكون دماؤها الطاهرة المسمار الأخير في نعوش هؤلاء المرتزقة ومن يواليهم.. انهم أعداء البشرية.. أعداء الحياة.. أعداء البشر والشجر والحجر.. ماتت قلوبهم وتحجرت.. يتمسحون باسم الدين.. والدين منهم براء. إن دم وجدان في أعناقنا جميعا.. في أعناق الشرفاء في هذا الوطن.. ولا يجب أن يروح هدرا.. بل يجب أن يكون بداية حقيقية لاقتلاع هؤلاء الكفرة الملاعين. ترددنا كثيرا قبل الاتصال بأسرة الطفلة الشهيدة (وجدان) 12 سنة والتي قتلها الارهاب الأسود في انفجار مبنى ادارة المرور بالرياض. كنا نتوقع ردة فعل غاضبة من أهلها نحن الصحفيين الباحثين عن الاثارة دائما.. ولكننا فوجئنا بترحيبهم. دخلنا البيت.. شرد تفكيرنا للحظات.. تذكرنا وجدان.. كانت تلعب هنا.. ربما سقطت هناك.. كانت تملأ البيت (شقاوة) الآن البيت صامت.. تذكرت أن البيت تهدم.. وأن هذا بيت جديد. في البداية قال الأب المكلوم: لم أكن أعلم أن ابنتي محبوبة هكذا.. اتلقى يوميا مئات الاتصالات للعزاء.. منها اتصال من زميل دراسة انقطعت صلتي به منذ 12 سنة، واتصل ليواسيني. ما أطيب شعبنا.. وما أسوأ ما يحدث باسمه من فئة ضالة خرجت على الآداب والأعراف والتقاليد.. كيف يخرج من بين هذا الشعب.. يد تقتل وعين تحسد.. وقلب يحقد ويكره كل هذه الكراهية. يقول والد (وجدان) انه ليس مهموما بل سعيدا لأنها توفيت شهيدة بإذن الله.. وأضاف: فعلا هناك القليل من الألم بداخلي فأنا والدها ويجب أن أتألم لفراقها ولكنني مرتاح لأن خاتمتها طيبة بإذنه تعالى. ثم جاءت اللحظة التي كنا نخاف منها.. تحدثنا الى أم (وجدان) ولحسن الحظ اكتشفنا كم هي قوية الإيمان.. وكم هي فخورة بابنتها الراحلة. كم هذا الشعب مؤمن حقا.. وان ما يحدث باسم الدين من تفجيرات وعنف وقتل ودمار.. ان هي إلا دعاوى باطلة مبطلة.. الدين أشرف وأعلى من أن يتمسح به القتلة الفجرة.. نترك لكم حديث أم وجدان كما سمعناه منها شخصيا دون حذف أو اضافة: قال: اذكر لكم تفاصيل آخر يوم في حياتها.. نهضت في الصباح وتوضأت وصلت ثم رتبت شعرها ولم تتناول افطارها، فأعطيتها وجبة للفسحة، وذهبت الى مدرستها، مدرسة (الأبناء)، ثم عادت كالمعتاد في الساعة الواحدة إلا عشر دقائق بعد الظهر. غيرت ملابسها وصلت الظهر. والحمد لله فقد كانت ابنتي ملتزمة منذ نعومة أظافرها، كانت تصلي وتصوم تطوعا، كما كانت حسنة الخلق مع الجميع. وتتابع حديثها لتصل الى تفاصيل الحادث المؤلم فتقول بصوت مجروح: عندما وقع الانفجار كنا جميعنا موجودين في داخل البيت، وكانت شقيقات (وجدان): (أفنان) 14 سنة و(سمية ) 16 سنة نائمتين بعد عودتهما من المدرسة، عدا (وجدان) التي كانت تلعب في فناء البيت مباشرة بعد تناولها غداءها المفضل (الاندومي) وكانت تتسلى بمشاهدة الحمام الذي اشتراه شقيقها الأكبر، من اجل أخوته خصوصا الأخ الأصغر. ولم تأخذ وقتا طويلا.. لم تأخذ حتى 5 دقائق، ثم حدث الانفجار وتوفيت في الحال متأثرة بإصاباتها. وتتحدث عن سلوك (وجدان) الغريب قبل رحيلها بأيام قليلة، قائلة: كانت ابنتي تشعر بدنو أجلها. أذكر أنها كانت تكلم احدى صديقاتها عن الموت! وبعدها حدثتني بإحساس غريب ينتابها، كانت تقول: أحس ان الموت قريب مني.. فقلت لها كيف؟، فأجابت: لا أعلم؟!.. احس بضيقة في صدري.. اشعر بأن نهايتي قريبة. فنظرت اليها نظرة خوف وشعرت بالقلق ولكنني بينت لها العكس وطمأنتها قائلة ان ما فيها مجرد تعب لأنها كانت مريضة وغابت عن المدرسة. وبعدها بأيام صدق احساس (وجدان).. وماتت. وحول شعور أشقائها بعد رحيلها بهذا الشكل، قالت بحزن: إن حالتهم النفسية سيئة جدا لدرجة أنهم لم يذهبوا الى المدرسة.. وأيضا لأن البيت الذي كانوا يعيشون فيه معا دمر من هول الانفجار ولم يعد صالحا للعيش. لم يتبق منه شيء.. لا نوافذ.. لا أبواب.. والأرضية مليئة بالزجاج المهشم.. أما المطبخ فقد انهد كليا!! وكذلك كل سياراتنا تحطمت كليا، ولم يعد لدينا سيارة واحدة. وحاليا نعيش في مكان آخر في منطقة تبعد عن بيتنا الأول بعشر دقائق. وسألناها عن طموحات (وجدان).. كيف كانت؟ وهل كانت لديها أمنيات تعيش لأجل تحقيقها؟ فأجابت: لم يكن لديها طموحات فيما يتعلق بالدراسة.. كانت تؤدي الواجبات على أكمل وجه وتذاكر ولكنها كانت تكره المدرسة ولا تحب الدراسة. وكانت تفضل اللعب والعناية بأشقائها إلا أنها كانت تود ان تصبح طبيبة وتعالج المرضى وتقدم لهم الدواء. وكانت تقول لي لا أريد الذهاب الى المدرسة.. أريد البقاء معك في البيت لأساعدك في تربية اخواني. في الحقيقة، هي أكثر واحدة من بناتي كنت أعتمد عليها.. حتى أكثر من اختها الكبيرة. كنت أ أتمن عليها اخوانها في حال خروجي من البيت، وكنت أثق فيها كثيرا.. لقد كانت حنونة جدا معهم.. هي بطبيعتها حنونة مع الجميع ومرحة وبريئة جدا. والآن الكل يفتقدها ومنهم صديقاتي فقد دخلت قلوبهن، لأنها كانت تحب الجلوس معهن وكانت تهتم بأطفالهن. وأيضا فقد افتقدتها الزميلات والمعلمات بل والمدرسة بأكملها. وأذكر ان عددا كبيرا من الطالبات من زميلاتها أتين لتقديم التعازي ومواساتنا بعد الحادثة مع أمهاتهن والمعلمات، أكثر من 20 معلمة، وكذلك المديرة ومعها جميع المشرفات.. والله ما قصروا. وقد كانت (وجدان) موضوع الاذاعة المدرسية يوم السبت بعد الحادثة. وقد علمت ان عددا من زميلاتها رفضن الدخول الى الصف بعد ذلك وكن يبكين كثيرا متأثرات برحيلها. وتعود للحديث عن أشقاء الراحلة قائلة: أشقاؤها مازالوا متعبين نفسيا للغاية.. ابنتي (أفنان) أصبحت قلقة جدا و(روان) 10 سنوات التي تعرضت لاصابة بسيطة في رجلها جراء الحادث، أصبحت تكره تلك البطانية التي كانت تخص (وجدان)، وتقول: أبعدوا عني هذه البطانية.. انها تخيفني!!.. فهي تخاف من استرجاع الذكريات المؤلمة. وتواصل حديثها قائلة: أبنائي مرعوبون ويكادون لا يصدقون ما حدث.. أصبحوا خائفين من الخروج من البيت.. حتى ابني (نادر) 23 سنة أصبح يخشى الخروج خشية حدوث انفجار آخر.. وقال لي مرة أنه تألم كثيرا عندما مر بالقرب من بيتنا الأول. وأشعر بمدى ألمه لأنه كان متواجدا لحظة الحادث، ورأى شقيقته في حالة يرثى لها.. وهو من حملها الى المستشفى لاحقا. وتقول: أردت القاء النظرة الأخيرة على غاليتي (وجدان).. لا أعرف لماذا.. فقط أردت ذلك.. فحضرت غسيلها مع المغسلات.. وشعرت براحة نفسية لأني رأيتها لآخر مرة واطمأننت عليها.. كان وجهها وجسمها مليئين بالنور.. وهذا ما زادني راحة وطمأنينة. واختتمت حديثها إلينا قائلة: الحمد لله فقد من الله علي بنعمة الايمان، فأنا مؤمنة بالقضاء والقدر خيره وشره، والله كتب لها الموت وهذا واقع يجب تقبله. أخيرا.. تحاول والدة (وجدان) جاهدة هذه الأيام لتغيير حال أبنائها، بإقناعهم بمواصلة حياتهم كما كانت وأن يتخلصوا من الذكرى المحزنة. وقررت أن تأخذهم هي والوالد لأداء العمرة قريبا جدا حتى تتحسن حالتهم النفسية. دعواتنا لتلك الأم القوية الصابرة وذلك الأب المؤمن الطيب وجميع من يعز (وجدان) بمزيد من الصبر والسلوان. وجدان وسط اخوتها وأصدقائها