هل ثمة مكان تظلله الابعاد للنوع؟ هل ثمة فضاء انثوي محض سوى (الرحم)؟! الفراغ الذي يخلق كائناته ويضعها مثله مثل المتخيل الانثوي رحم الحكاية الازلي, منذ خلق الله جدات يجلسن في الذاكرة, يحكين عن بلاد وعباد, وقوافل سيارة. مغرمة انا بمكان لا ينتمي اليه غيري. وطأة الوحدة قد تطاردني فيه لكنني اجدل منه مساحة وجودي الخاصة, أتشرنق على وحدتي لا نسج مزيدا من المرويات لا تخص سوى ذاكرتي. حكاءة هكذا كانوا يقولون في طفولتي مثلما وصفوا (فاطم) في روايتي الاولى (الخباء) حكاءة فهل عرفوا انني اصدق, ما أقول ويتلبسني مثل حالة لا خلاص منها, وانني افقد في لحظات الخيط بين ما أروي وما أكون, أعيد صياغة الحواديت كل مرة واحلم بصنع (رواية) استطيع ان اقلب فيها (ضمائر) السرد عبر الجمل فتصبح الضمائر خلطا دالا على حالة اكثر من كونهن ادوات خطاب. في المقعد المدرسي كنا اربع صغيرات نوزع حصص الحكى وننصت بشغف لمن عليه الدور القادم, حكايات جدتي زادي, علي ان احكيها كل مرة بشكل مختلف, الحكايات كانت مهربي الوحيد في البيت الذي لا يجاورنا فيه غير خليج من الرمل من جهة, واشجار كافور تفصلنا عن الحقل المجاور والصغيرات في الفصل سيصدقنني اذا قلت ان بيتي مسيج باوراق الياسمين وانني عشت في طور ست الحسن. بيتنا لم يكن سوى بيت مثل كل بيوت القبيلة, جدة تجلس على فرشها وتغني لي (ما انتي للي يصيد عويل ولا انتي صيده للرعيان) اذا ارادت تدليلي, وكنت اتطلع حولي فلا اجد "صيدا" ولا "رعيانا" ولا "غنائم" مجرد احواش وفضاءات واسعة تسبح البيوت الطينية التي استقرت فيها القبيلة بعد طول حراك, وضربت حول مطافها الاخير سورا عاليا يفصل بينها وبين القرى الصغيرة التي انتشرت حول اقطاع البدو. المعمار القبلي الذي له شكل القلاع هل هو في مواجهة الفضاء الصحراوي هذه المرة او في مواجهة الذوبان والاختلاط في المجتمع المصري؟ الباب الذي شهدته في طفولتي يفصل بيننا وبين الوجود الخارجي يصبح اول هاجس للكتابة لدى والمربط الضخم الذي لم يعد عامرا سوى بمهرة هزيلة, يعولون عليها حمل كل ايام المجد, حيث كانت تحلف الجدة ان ذلك المربط كان يضم اكثر من مائة رأس صار فضاءا خاويا وحدوات حديد مرهونة بالفراغ وشجرة كافور وحيدة معلقة في جزعها مهرة هزيلة وعدة بيوت قديمة مليئة بالصور, واوعية القهوة النحاسية وادوات القنص, وعدة سيوف قالوا انها تحفظ ما اسقطه التاريخ. قلبت كثيرا في كتب التاريخ والهجرات عن موقع استطيع ان افهم منه موقعنا الوجودي نحن (عربان مصر) كان التاريخ ضنيا بتدوين كل هوامش المتن, ولم نكن الهامش الوحيد الذي لم يحظ بعنايته, الجدة التي تجلس على فرشها ومازالت تحكي عن جمال وجمال, وتهزج بمغاني البدوان اهدتني فضاء المتخيل الوحيد (صحراء) لا تنتمي الى التاريخ او الجغرافيا تنتمي فقط الى رحم الحكاية, فالجدة التي لم تعرف سوى انهم يجلبون العبيد من جاوة, وقطع الصابون من غزة, ونسيج الكتان من بلاد القبط كانت تصنع بمتخيلها واقع الحكاية, وترسم خرائطها الخاصة, فأرض الهيش اسفل تلال (منازع) والعلواية الحمراء تجاور خليج (محجوب) وتربط كل الاسماء الواردة في خرائطها بشجرة نسب ممتدة يصبح فيها محجوب ومنازع وغيرهما الجذر القبلي في تاريخ الاجداد, كانت جدتي تهديني ما يمكن ان يسمى بالتوهمات (عالم) لا يحتكم الى التاريخ او الجغرافية على حقيقتها ينتمي الى متخيلات (جدتي) التي لم تغادر بيت ابيها الا الى بيت زوجها الذي صار بيت ابنها, بيوت متجاورة, مغلقة على اسرارها, معزولة داخل متخيلاتها عن الماضي وعن الوجود كله, ستصنع (جدتي) تاريخ البشر الخاص بها تاريخا قائما على علاقات النسب وعلى اصالة العرق, ففلان بن علان, وستقيم الفوارق الطبقية الخاصة بها وتختصر مجمل علاقتها بالبشر على اساس عروقهم فهؤلاء "صعايدة" وهؤلاء "غرابوة" وهؤلاء "غجر" وهؤلاء "فلاحون" مجملة في النهاية ما يمثلونه لها بعبارة وجيزة "حبايبنا وطول عمرهم خدامينا" فما القبلية اذا لم تكن انعزالا داخل (جيتو) ضيق لمفاخر مضى عليها الزمن؟! ليست الصحراء التي اقصدها سوى تلك الثقافة القبائلية التي تحكم موقعنا من الوجود, حملناها معنا نحن العربان الذين وفدنا على الحاضرة بحثا عن مرعى وكلأ على حواف النهر, بعدما امحلت نجد, وكان علينا غزل تغريبة جديدة, حملنا معنا بيوت الشعر ونصبناها امام بيوت الطين, بدو بلا صحراء, واقطاعيون يحتقرون الزراعة, ويتعالون على فلاحي مصر, ومر الزمن ومازلنا نحن بعباراتنا القديمة حيث البداوة جزء من تراث قيمي يصعب اسقاطه او مساءلته. @ هل ذلك يقارب موقعنا "كعرب" في تاريخ المدينة الحديثة؟ الاحالة من العينة الضيقة الى مقولات اكثر استفاضة كان هاجس الكاتب اختصار ازمة وجود امة بما تمثله شريحة من ايحاء ضمني بالكل. الصحراء لم تكن خيارا مكانيا لموضع فيه نفسي لادعاء الجدة او الغرابة, ولم تكن ارضا معرفية وطأتها لاجترها بسهولة, كانت فقط خلاء لافتراضاتي عن ثقافة شكلت ارواحنا, على مستويات اعمق من الملبس والمأكل والفولكلور, ثقافة لها منظومتها القيمية التي نضجر منها, او نسخر ثم يقودنا الحنين الى محاولة فهم او محاورة قيمها السالبة والموجبة معا, هكذا اضع نصي عبر عالم يراوح بين قيمة العشائرية والقبائلية وتعاطي المدنية في حاضرة يراوغها بالتعالي عليها والعزلة عنها. "المكان" لم يكن سوى هذا الوعاء الثقافي الضخم الذي اختلطت فيه معمار البيوت العربية بالقرى في دلتا مصر, بمضارب البدو العابرين, يتجسد لي في هيئة بيوت قديمة كان صوت جدتي يرف فيها بالمغاني, البيوت التي شهدت طفولتي وحيرتي الانسانية, وسؤالي الوجودي الى اي عالم انتمي كنت اقول: جدي "شيخ عرب" وابي طبيب وبين بيت ابي وبيت جدي اتطوح بين عالمين, تطل البيوت من بين تفاصيل الحكايا. في روايتي الاولى "الخباء" كان بيت جدي لابي غرف الخزين, البئر, غرفة الليمون, المضيفة التي تفصلها عن البيت سور عال وباب ضخم, الطفلة التي تخلقت من قسوة العزلة - "فاطم" بطلة الخباء - لا يقهر روحها سوى "باب". "باب" تدخل منه النسوة لاقدار ابدية ويخرجن الاقدار نفسها, فيصبح المعمار القاسي لحصون البدو باسوارها العالية تلك الدلالة للسرمدية. في روايتي "الباذنجانة الزرقاء" كانت روحي باتجاه بيت ابي القديم, البلكون الذي نلعب فيه "ملعب كرة القدم", الارجوحة التي نصبها ابي لي بين كافورتين, الجراج الذي كنا نختبئ فيه من غارات الطيران الاسرائيلي, غرفة ابي المتخمة بالدخان فقده المبكر وفراشه الخاوي. في "نقرات الظباء" المكان بيت "جد" آخر كان يقطن بيتا اكثر فخامة وعلى جدران قاعة الضيوف علقوا صورا كثيرة, جدل الصور التي اصطفت على حائط لتؤرخ مرويات كثيرة حولها, وتختصر تاريخ اسرة او قبيلة في مروي متواتر يصنع حبكته بفضائه العفوي, تخلق لي مساحة للتخيل والتوهم وملء الفراغات مثلما تتطلب المرويات, بدو بلا صحراء ارث من الشفاهي عن صحراء لم تعرفني لكنها تسكنني, تسكن طرق نظرنا الى اجسادنا, وتحكم علاقاتنا بالآخرين, الاب الذي يبحث طوال الرواية عن سلالة نقية لخيوله. هل يدرك ان نقاء السلالة في سياق الزمن صار بلا دلالة؟! والخيول التي ترمز الى كل ما يمثل ذلك من نقاء عرقي وقوة وخيلاء رومانتيكي هل تجسد مأزقنا في واقع يفرض سياقات قوى بديلة. المكان ابن ثقافته ام تلك الثقافة؟! سؤال اكثر سرمدية, ظلت الصحراء بالنسبة لي "لوحة" على حائط قديم لحجالة ترقص على اكف الحدائين, صورة من الذاكرة لبيت جد شاهدت مرابط خيله وجماله في طفولتي, وحاولت ان استعيد - ما روى لي عنه - حين يركب فرسه "زاد الركب" ويركض في شوارع صارت حواري طينية ضيقة, ويسأل الرائح والغادي, "نار من هذه يا ولد!". النار التي اوقدها - ليست هي الحنين او المجد الضائع, بل نار الرحالة حين يفقد ويصبح الافق ضياعا تاما للانساب وموازين الاشياء وخرائط القوة والضعف في واقع جديد. السؤال يعود ليلقى ظلاله ما دام المكان رحم الحكاية, والحكاية تتخلق من مرويات على ألسنة الجدات هل هناك مكان انثوي للكتابة؟!. ليس هناك سوى الرحم منجب الحكايات الاول, يخلق متنه الخاص عبر عين تراقب بدقة سيرة الوجود, ادعى ان الخبرة الانثوية اكثر استفاضة في التأمل, واكثر ولعا بالتفاصيل, الخبرة الانثوية بالمكان خبرة الحياة اليومية, تفاصيل الطبخ, وغرف الخزين والكرار, وستائر الفراش الملونة بذكريات استثنائية, كنت ارى نفسي وجوهر وجودي في التقاط اكبر قدر من التفاصيل وخلق عالم من قصاصات القاها حائكو الثياب على عتباتهم, ولم يكن لدي زاد معرفي او خبرة مباشرة بعالم البدو, كنت التقط التفاصيل من بين ثنايا الحكي والغناء, قالت لي امرأة بسيطة من جيل امي بعد قراءة احدى رواياتي انها صدقت ان الكتابة امرأة حين وصفت لف خصلات الشعر على الجوارب المحشوة بالقطن لصنع (بوكليت) على هيئة شعر "ليلى مراد" او "اسمهان" قلت لها ان روايات الرجال ايضا وصفت بدقة اكثر "عالم النساء" قالت "عين الرجل سترى تفاصيل اخرى" هذه العين التي راقبت وتخيلت داخل نصوصي كانت عين طفلة تتلصص على جدات يمسحن اجسادهن بدهن العود ويسحقن الشبة والمستكة ويحشون الوسائد بورق الحنة, على اسرة من النحاس القديم لبيوت يختلط فيها التاريخ, تاريخ الاسر مع تاريخ الاشياء والروائح والصور القديمة, تاريخ فضفاض يسمح لي بان القي عليه ظلال وجودي كوشاح من حنين. الاماكن التي نحتفي بها هي اماكن للذكرى ولتفجير هذا الولع بما قد فارق, ومن فارق ايضا. كنت في امكنة اكثر جمالا من كل بيوت اجدادي المتداعية لكنني لم اكتب بها ولم اكتب عنها, قال لي كاتب اسباني كنا ضيوفا معا في الاكاديمية - الامريكية بالولايات المتحدةالامريكية "ألا تعتقدين ان هذا المكان اجمل مكان في العالم", كنا نقف في شرفة لقصر ريفي في منتجع او محمية طبيعية في قرية تسمى (OMI) تقع على نهر هدسون, يسقط المطر والشمس هائمة في فضاء الخضرة, الوان قوس قزح تواجهني على حقيقتها في الفضاء وليس تحت المنشور الزجاجي مثلما تعلمنا في مدارسنا الصغيرة, الغزالات تسير على مهل, والسلاحف بين سياج الخضرة تقفز حولها السناجب والارانب البرية, وكورال من الطيور, يتنافس في ابهة الالوان واتساقها, سخاء الطبيعة الاسطوري, وسهولة الحياة والغرف الباذخة كانت تدعني على مزيد من الحنين لبيوت طينية قديمة امتلكت ذاكرتي. ليست الامكنة للمبدع "لا ندسكيب" او مناظر طبيعية بالغة الروعة المكان عبق الذكرى, الذين احبوا فقط في (OMI) وشهدتهم, ربما تحمل الطاولات والاسرة والغرف ومنافض الدخان والاشجار في الادغال القريبة بعض اسرارهم, اما العابرون فسيقفون مثلي يبتسمون للفضاء الساحر بمودة ويغادرونه بالحياة نفسها, المكان ليس احتضانا رحميا لذكرى جنينية يتولد منها مخاض الكتابة. هل يصبح التبسيط اقصر الطرق الى قلب المعنى, ليست دينامية لتخيل سوى بعض الحنين وبعض التخيلات الاكثر براءة والقادرة على اقتناص مقاربات لا حصر لهذا الماضي البعيد, وليس المكان - ابداعيا - سوى رحم للحكايا مثل فم جدتي التي كانت تصنع متخيلا للعالم لا يقارب في حقيقته سوى ما ترويه. *ورقة عمل القيت في مؤتمر الرواية ضمن مهرجان الامارات الثقافي