لا بد أن تثير الملاحظة الصغيرة التي يستهل بها جبرا روايته منوها بأن الأسماء والشخوص غير حقيقية وأن أي تطابق غير مقصود، أقول لا بد أن يثير هذا النفي والدفع المسبق لتهمة محتملة لدى القارئ الفضول ليبحث عن أوجه شبه مع الواقع والتاريخ، ولا يمكنه إلا أن يشعر في دواخله أن نفي جبرا إنما يعني احتمالية كبيرة لوجود هذه الشخصيات على أرض الواقع، إن لم تكن مطابقة لها فهي تحمل شيئا من سماتها على الأقل. أولها وليد مسعود: أوجه التطابق بينه وبين جبرا نفسه مذهلة. الفلسطيني المرتحل عن أرضه إلى بلاد الرافدين، المهموم بمأساة شعبه، المثقف واسع الاطلاع. بل إن جبرا يذهب بعيدا ليطلق على السيرة الذاتية التي كتبها وليد مسعود في الرواية اسم «البئر»، مذكرا بعنوان سيرته الشخصية «البئر الأولى». ولع جبرا بالفنون والثقافات الأجنبية واضح جدا ومبثوث في جوانب الرواية. ثمة اقتباسات عديدة لكتاب أجانب، كما أن شخصية وليد مسعود ذاتها تكاد تكون نموذجا حديثا عن شخصية هاملت. رغم المدح الذي كيل للرواية ولبنائها «الهندسي» الذي وظف أكثر من راو، إلا أني أجد هذا التوظيف سطحيا إلى حد ما. صحيح أن سيرة وليد مسعود تطرح للقارئ على أكثر من لسان، لكن من الواضح جدا أن خلف هذه الألسن المتعددة راويا أوحد يوجه الحدث والأفكار حد التطابق. الشخوص التي تتناول روايته ليست متنافرة أو متضادة مهما حاول جبرا أن يوهمنا بذلك. كلها تجد نفسها ممثلة عن وليد ومتطابقة معه على نحو ما. أما الشخصيات الأخرى التي تقف بصراحة على النقيض ككاظم أو هشام، فهي مقصاة بعنف، وإن ادعى الراوي - متمثلا في جواد - أنه يعيد سرد الحكاية بين كاظم ووليد بحياد وتوسط، إلا أن الانحياز لرؤية وليد واضحة جدا. لعل هذا هو السبب الرئيس الذي يجعلني أمنح الرواية ثلاث نجمات لا أربع. كانت خيبتي شديدة لعلمي أن جبرا ترجم رائعة فوكنر «الصخب والعنف» الذي وظف أسلوب الراوي المتعدد على أكمل وأجمل وجه، لذا لم أستطع تجاوز كبوة جبرا هذه. السبب الآخر هو أني لم أكن مقتنعة جدا بهذا التقديس الأسطوري لشخصية وليد، هذا الكمال المفرط فيه الذي لا يليق إلا بالمآسي الشكسبيرية، حتى في مآسي شكسبير كان البطل يقع ضحية هفوة ما، مثلبة قاتلة في شخصه. إلا أن المثلبة الوحيدة في وليد على ما يبدو هي كماله!. لعله ولعي الشديد بأجاثا كريستي الذي جعلني أشعر في بداية الرواية بروحها ترفرف من بعيد.. في الطريقة «البواروية» التي لم فيها جواد شخوصا مختلفة ليعرض عليهم «الدليل» أو «الأثر». ها هو جبرا يعنون أحد فصوله في «شارع الأميرات» ب«حكايتي مع أجاثا كريستي»، التي يسرد فيها لقاءه في بغداد بالكاتبة البوليسية التي قرأها مراهقا وأعجب بأعمالها. أشعر أن في جعبتي الكثير لأقوله عن هذه الرواية. ليست سيئة.. لا! أعتبرها من الأعمال العربية التي تستحق الوقوف عندها وإن لم تبلغ الكمال. Fahima Jaffar إنها تختلف عن روائع أخرى تناولت نفس الموضوع في شيئين: أولا ذلك الذي نتتبع سيرته ليس شخصا عاديا حتى ليس مناضلا عاديا بل هو مناضل بدرجة فيلسوف، ملأ كفيه من الحياة ثم ألقى ما حملت يداه عنه دفعة واحدة، قد تكون هذه نفسية المناضل الحق. وثانيا أن جبرا اختار في تلك الرواية شكلا سرديا فريدا من نوعه لن تمل منها ولا أبالغ إذا قلت إنها من روايات الجلسة الواحدة. أخيرا فقدت ثقتي بالكثير من التصنيفات والجوائز التي تعطى لأعمال أدبية أراها قليلة القيمة والعمق وحتى بخسة الأسلوب، ولكن هذه الرواية أعادت لي الكثير من الثقة. Fadwa Fareed