إن من أصعب اللحظات على المرء حين تختلط لديه مشاعر الحزن والفرح .. فلقد كان المصاب عظيماً والخطب جللاً .. كيف لا وضحية إجرامهم وجنونهم هذه المرة شيخ الإنتفاضة ورمز الكرامة لأمّةٍ تُداس كرامتها كل يوم وتغتصب حقوقها كل ساعة؟! ولكن عزاءنا أنه نال شرف الشهادة وأدرك أسمى أمانيه مصلياً ذاكراً مقبلاً غير مدبر. إن التاريخ سيقف طويلاً للحديث عن هذا القائد الفذ الملهم.. لقد عاش هذا المجاهد الحرُّ لأمته وقضيته فعاش كبيراً ومات كبيراً عند الناس وعند الله -إن شاء الله. إن كرسيك أيها الجبل الأشم سيبقى شاهداً على المقعدين من صِحاح الأمة .. فلقد ضربت أروع الأمثلة وأكثرها تأثيراً في النفوس حين أحلتَ إعاقتك وعجزك إرادةً وعزيمة لا تعرف الخور .. إن كرسيك يصيح في الأمة من بعدك أن لا عذر لكم اليوم .. وأن المسألة ليست بالأجسام وضخامتها ولا الأقوال وفصاحتها.. ولكنها الإرادة والعزيمة والمضاء والبذل والتضحية والعطاء.. وشتان بين رجل قعيد أحيا أمة و رجل صحيح قعيد الهمة .. ولقد تذكرت حين رأيت المواكب والحشود التي خرجت بمئات الألوف في تأبين الشيخ أو التنديد والاستنكار لهذه الجريمة البشعة تجوب شوارع وعواصم العالم يعلوها الحزن وتبللها دموع الفراق.. تذكرت حينها كلمات رائعات نطقت بها زوج الرشيد حين رأت من شرفة قصرها الجموع التي خرجت لاستقبال ابن المبارك وقد تقطعت النعال وعلت الغبرة فقالت: ما هذا؟! فقيل لها: هذه الجموع خرجت تستقبل عالم خراسان.. فقالت هذا الملك لا ملك الرشيد الذي يجمع الناس بالشُرَط والأعوان !! نعم هذا الملك والله .. حين تجتمع القلوب على حب القادة الأبطال الصادقين.. قد تُخدع الشعوب بمعسول الكلام وزائف الوعود ولكنها لا تلبث أن تكتشف الحقائق وتميز الخبيث من الطيب وتعلم الصادقين الذين عاشوا لقضيتهم من الذين عاشوا من قضيتهم.. وداعاً أيها الشيخ وهنيئاً لك الشهادة ..