هناك جهاز اعلامي هام يسمى التليفزيون، ويعلم الجميع ان هذا الجهاز نافذة لنشر الوعي كما انه جهاز يمكن للجهة المالكة ان تتحكم فيه سواء كانت دولة او شركة او فردا ما. الجهات المالكية يمكنها ان تطرح آراءها وقناعاتها على الآخرين خصوصا ان التليفزيون أخذ في التربع على عرش المقروء (الرواية والكتاب والصحافة وحتى السينما)!! هذه القوة التأثيرية للتليفزيون بتنا نلاحظها في شكل علاقة طردية أي بين تفاقم السيطرة البصرية على المتلقي والازدياد المطرد لعدد المستهلكين لسلعة معينة. وقد حدثنا احد التجار ان المواطنين يأتون لشراء السلعة ولا يملكون تفاصيل كاملة حول السلعة بل يستعينون بذكر المحطة الفضائية التي تنشر الاعلان!! هيمنة التجار!! لقد ازدادت على الناس قوة تأثير هذا الجهاز، والناس لا يملكون أي قوة موازية تحمي نفسها من ذلك التأثير. لقد امتد الاعلان لكي يتطاول اويطال المسلسلات والأفلام بالتقطيع بهدف حشوها بالاعلانات التجارية وضمن معادلة تحسم ارتفاع قوائم المدفوعات والمصروفات للأعمال الفنية. فقد يحشر عشرون اعلانا في ساعة درامية واحدة بما يغذي سلوكيات مجتمعات الوفرة الاستهلاكية. لقد دخل الاقتصاديون والمنتجون والتجار في صراع مع اهل الفن والاخراج والذوق الجميل. فالمشاهد يفاجأ بدعاية العلكة او محارم التواليت داخل مسلسل تتحدث قصته عن مسألة وطنية او حدث تاريخي هام او قد يصل الحدث الى حالة انسانية راقية فيتأفف الناس من ظهور اعلان في اللحظة الحرجة. الصراع بين التجار وأهل الفن او بين صناع الاعمال الفنية يتخذ في نهاية المطاف صيغة التحالف والتعايش اكثر من صيغة العراك والاختلاف! في تقديرنا الصراع يحب ان يكون في كيفية حماية المواطن. فالمحصلة النهائية في الخطة الاعلانية هي ان تأسر المشاهد او تقوده لاشعوريا نحو اهداف تسويقية محددة ولا ينحصر ضررها في تلويث الذهن بالافكار التجارية بل يتعداه الى التلاعب بأهم شريحتين في المجتمع (الطفل والمرأة) وهما الطعم او المصيدة في الاعلانات التجارية وهو بالتالي اعتداء على الاسرة بكاملها. ولن نقف طويلا عند بعض الاعلانات التي تخدش الحياء كما هو الحال في الاعلان عن (الأوقات الخاصة للزوجين)، وكذلك الاعلانات الجنسية (سنافي) الذي هو بديل (للفياغرا) حيث يرتفع عمود من وسط الخيمة يرفعها الى أعلى ثم يخترق العمود الخيمة كناية عن الفحولة العربية التي اختزلت في شهوة الجنس. وهكذا تتورط الأسرة العربية مع اسئلة الاطفال الابرياء حول هذه المشاهد المخجلة! الاعلان عالميا له ابعاد وانماط وتأثيرات اجتماعية وكذلك سياسية كما هو الحال في الحملات الانتخابية حيث ينفق بعض المرشحين اموالا طائلة في الاعلان لحملتهم حتى تكون الفرصة في الفوز اكبر. وبحكم العولمة او لنقل (الأمركة) حيث تملك امريكا اكبر صناعة اعلان في العالم وتشغل الاعلانات التجارية في التليفزيون وقتا اكثر من اي بلد آخر تأثرنا نحن في البلاد العربية كالعادة بالآخر بحكم (المحاكاة) و(الأسهل) وعلى الأخص في ظل غياب القيود والمؤسسات المدنية التي لها الحق في تطبيق تلك القوانين الرادعة لذا كانت تأثيرات الاعلان على مجتمعاتنا اكثر ضررا. العديد من الدول تفرض قيودا على اعلان على سبيل المثال تقوم بعض الدول في اوروبا الغربية بالحد من حجم الاعلانات التليفزيونية ونوع السلع التجارية التي يروج لها بل ان الاعلان يعتبر ممارسة غير قانونية في كل من السويد والنرويج!. تحدد الحكومات في اغلب الاقطار مدة الاعلانات التجارية في التليفزيون بحيث لاتتعدى دقائق معينة كل ساعة. في بريطانيا مثلا والتي تعج بها مؤسسات حماية المستهلك تم تحديد مدة الاعلانات بتسع دقائق خلا ل معظم اوقات العرض، ولا يخفى علينا ان علماء نفس الدعاية والاعلام يذهبون الى ان ساعات المساء هي الساعات الافضل في التأثير وكذلك في استقطاب اكبر عدد من المشاهدين، ولهم من الزعيم الالماني (هتلر) اسوة حسنة حيث ذكر في كتابه المشهور (كفاحي) مجموعة من النصائح للطواغيت جاء من بينها افضل ساعات للتأثير على الناس قائلا (عندما تكون الجماهير منهكة بدنيا فذلك هو الوضع الامثل للايحاء اليهم!) ومن هنا فهو يناقش أيهما افضل ساعات النهار أم الليل لعقد الاجتماعات السياسية للجماهير ويرى ان ساعات المساء افضل قائلا: (يبدو ان ارادة الناس تكون في الصباح وطوال النهار قوية قادرة على التمرد على من يحاول ارغامها بقبول ارادة شخص آخر أو رأي مختلف!). تشريع القوانين: اننا عندما نتحدث عن سن القوانين فاننا نتوقع من المسؤولين ووزراء الاعلام العرب مراعاة طبيعة وظروف مجتمعاتنا العربية، فالأمية في مجتمعنا ضاربة حتى النخاع، فهناك 65 مليون عربي أمي وثلثا هذا الرقم من النساء؟ الشيء المحزن والذي لم يلتفت اليه البعض ان منظمة الصحة العالمية انتقدت الاعمال الفنية المصرية والسورية واللبنانية التي عرضها التليفزيون في شهر رمضان الماضي 2003م لاحتوائها على كم هائل من مشاهد التدخين والمخدرات. وقال مصدر في المكتب الاقليمي للشرق الاوسط: ان المشكلة تكمن في ان تلك الاعمال هي الأكثر انتشارا ويقبل على مشاهدتها الشباب والاطفال. واعربت المنظمة عن دهشتها من الاسراف في مشاهد تعاطي التبغ والمخدرات في العام نفسه الذي اختير موضوع (تحرير الاعمال الفنية من التبغ) ليكون محورا لليوم العالمي للامتناع عن التبغ تحت شعار (فنون بلا تبغ). وناشدت القائمين على الدراما ان (يطهروا) اعمالهم من مشاهد استهلاك التبغ والمخدرات والمسكرات وذلك بمنعها من اعمالهم المقبلة. في الوطن العربي بدو ان القرار ليس بيد الكاتب او المثقف فدعه يتألم فهناك تحالف بين اهل الفن واهل التجارة او لنقل ان هناك تعايشا او حتى صمتا تجاه ما يحدث. من المؤسف في واقعنا العربي ان بعض الدراسات وبعض الجهود تتم بمعزل عن متخذي القرار وبالتالي تكون نتائج الدراسات او حتى ما يكتب حبيس الصدور! على سبيل المثال اكد باحثون في كلية الاعلام في جامعة القاهرة ان الاطفال يشتركون في تنفيذ نحو 40% من الاعلانات التي يبثها التليفزيون المصري وهؤلاء تتراوح اعمارهم بين اقل من سنة و13 سنة. والسؤال ما فائدة الكتابة؟ نعم هناك مفارقات في اتخاذ القرار بين الشعوب فقد وافق البرلمان الهندي بالاجماع على مشروع قانون يحضر نشر الدعاية لحليب الرضاعة الصناعي وزجاجات الرضاعة ويتضمن القانون فرض عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات على من يخالف هذا القانون. وذكرت وكالة الانباء الهندية (برس ترست) ان اعضاء البرلمان الهندي اشادوا بمشروع القانون ووصفوه بانه ينطوي على فائدة كبيرة للأمهات والاطفال على حد سواء. في احدى دول الخليج العربي تعاقدت مدرسة ما مع شركة مشهورة (للحليب الصناعي) وهذه المدرسة تابعة لوزارة التربية والتعليم وكان العقد يلزم الشركة بدفع (100) الف دولار أي ما يعادل (400) الف ريال سعودي سنويا مقابل لوحة اعلانية صحية تعلق على جدار المدرسة. ولن نقول اسم الدولة لكن الطريف في الامر ان نخبة من اولياء الامور بعثوا رسالة شكر للادارة العليا في الوزارة على الخطوة الذكية لتنويع مصادر الدخل. أين الخلل؟ هل نلوم صناع القرار؟ أم عامة الناس؟ في تقديرنا المهم ألا يكون القارئ العزيز واحدا من هؤلاء أي ان نأخذ الحكمة من جحا. فقد سأل احد الاشخاص جحا: أيهما افضل ان نمشي أمام الجنازة ام خلف الجنازة؟ فقال جحا: لك الاجر ان مشيت أمام او خلف الجنازة المهم ألا تكون المحمول!!