ما أكثر النصح وما أقل المنتصحين! فما أن يأتي الصيف، أو موسم الهجرة إلى كل الجهات حتى يتبارى بعض الكتَّاب في تدبيج الوصايا للسائحين عموما والشبان منهم على وجه الخصوص، وصايا تحث على تمثيل الوطن في الخارج أحسن تمثيل، والمحافظة على نقاء صورته أمام الآخرين، فكل سلوك سلبي يسلكه الفرد محسوب على الجميع. وصايا بديعة لا يختلف فيها اثنان، وإن لم يلتفت إليها أحد. لكن، لماذا نحرص كل الحرص على تلميع صورة الوطن في الخارج فحسب؟ وهل نعيش في الداخل بمنأى عن ملاحظات أو انطباعات الآخرين؟ هل الداخل جزيرة معزولة نائية لا يشاركنا فيها أحد؟ هنالك من يسيىء إلى تلك الصورة في الداخل قبل الخارج. فلماذا لا نبدأ بالداخل أولا؟ لماذا لا يكون الداخل قاعة الدرس الأولى؟ لماذا، مثلا، تندب وكالات تأجير السيارات حظها العاثر عندما تتعامل مع بعض الزبائن؟ لماذا يروي العاملون في هذه الوكالات قصصا ينام السامع لها واقفا؟ حكايات أهون ما فيها ألا تعاد السيارة المستأجرة إلى الوكالة في حالة مزرية، وأصعبها ألا تعاد على الإطلاق! (اليوم/ العدد 11223/ 16 محرم 1425ه). ولماذا يعاني المؤجر الأمرين من مماطلة وتسويف بعض المستأجرين الذين لا يحترمون عقد الإيجار؟ هل شاهدتم كيف جسد مسلسل (طاش ما طاش) تلك المعاناة؟ وكيف صور تلك المتاهات التي يدخل فيها أصحاب الدور المؤجرة مع المستأجر عندما يخل بالتزاماته كطرف ثان؟ ولماذا لا يغادر بعضهم البيت الذي آواه وأسرته سنينا طويلة إلا بعد أن يعيث فيه خرابا؟ ولماذا يعتدي بعض الطلبة على المدرس أو مدير المدرسة أو سيارته (الرياض/ العدد 13022 24 ذو الحجة 1424ه). آخر تلك القصص ما نشرته (اليوم) عن احتماء أحد المعلمين بالشرطة هربا من أذى أحد الطلاب. ولماذا يتجاهل بعضهم خلق الله وينتهك انتظام طابور الانتظار دون أن يرفَّ له جفن؟ ولماذا يتسلى بعض المتسكعين بمضايقة ومعاكسة المتسوقات في المجمعات والطالبات أمام المدارس؟ (الوطن/العدد 1247/8 محرم 1425). ولماذا تصبح الحارات والأحياء حلبة لتفحيط المراهقين الذي قد يسفك دم الأبرياء أحيانا؟ (اليوم/ العدد 11222/ 15 محرم 1425). ولماذا يعبئ بعضهم سيارته بنزينا إلى حدود التخمة ثم يفر هاربا، فلا يملك العاملون في محطات البنزين سوى تعليق أرقام السيارات الهاربة تحت عنوان (هارب) نكاية بلصوص البنزين، ولسان الحال يقول: ليس في الإمكان أكثر مما كان؟ ولماذا يحسب بعضهم شوارع المدينة منافض للسجائر أو براميل لسقط المتاع فيقذف بالعلب الفارغة والمناديل الورقية وأعقاب السجائر المشتعلة من نوافذ السيارات؟ ولماذا لا يغادر بعضهم منتزها أو حديقة عامة إلا وهي أشبه بمجمع للنفايات؟ أليست المدينة بيتنا الكبير الذي ينبغي أن نحرص على نظافته ونحافظ على مرافقه المختلفة؟ ولماذا يلوث بعضهم نقاء البيئة فيترك عادم سيارته ينفث سحبا من الدخان الأسود الذي يتسلل إلى رئات خلق الله. ولماذا تستخدم أبواق السيارات بمناسبة وبدون مناسبة مساهمة منهم في رفع معدلات التلوث الضوضائي؟ ولماذا السرعة الجنونية وقطع إشارات المرور واقتراف كافة أشكال المخالفات المرورية؟ رصدت إدارة مرور منطقة الرياض (10271) مخالفة مرورية خلال أربع ساعات في مدينة الرياض وحدها!! يا للهول! وقد تراوحت تلك المخالفات بين زيادة السرعة وقطع الإشارة والوقوف الممنوع والتفحيط. (الرياض/ العدد/13041/17 محرم 1425). بعد أن تكاثرت عليَّ جحافل (لماذا؟) شاهرة أسنتها، رأيت أن ألجأ إلى تصفح منهج (التربية الوطنية) فربما أجد إجابة شافيةً وافيةً في هذا الكتاب أو ذاك. أو لعلي أكتشف ثغرةً لم تخطر على بال مؤلفي ذلك المنهج. حاولت أن تكون العينة عشوائيةً على طريقة رجال الإحصاء، فاخترت مقرر الصف الثاني المتوسط والثاني الثانوي فوجدت أن الهدف من تدريس هذه المادة هو الحد من كل تلك المظاهر السلبية، وتنمية روح الولاء والانتماء للوطن، وغرس حب النظام واحترام القانون في نفوس الناشئة، وتشجيع روح المبادرة للأعمال الخيرية، وترسيخ القيم والعادات الإيجابية، وتنظيم العلاقات الاجتماعية والأسرية. كل ما تضمنته مادة التربية الوطنية جميل ورائع بدءا من توعية الناشئة على المحافظة على الممتلكات العامة والخاصة، وترشيد الاستهلاك، والاستخدام الواعي للمرافق، وانتهاء بأصول الحوار وآدابه واحترام الوقت واستغلاله الاستغلال الأمثل. فأين، إذن، يكمن الخلل؟ يبدو أن التوعية وحدها لا تكفي على الرغم من أهمية الدور الذي تؤديه التوعية ومناهج التربية في مثل هذه السن المبكرة، فاستجابات الأفراد ليست واحدة، كما أن بعضهم ميال إلى خرق الأنظمة والتحلل من الالتزامات والتحايل عليها إذا ما وجد الفرصة سانحة. وما أكثر أولئك المستهترين الذين إذا أمنوا العقوبة أساءوا الأدب "ناس يخافون مايختشوش" كما يعبر إخواننا المصريون. ولابد، والحال هذه، من تطبيق الأنظمة بشكل صارم وبدون استثناء للحد من تلك التجاوزات، وتشريع أنظمة إضافية لعلاج بعض أنماط السلوك التي لم تدرج حتى الآن تحت أي مسمى أو تصنيف. لعل ذلك يساعد على إيقاف تدفق سيل الأسئلة التي تبدأ ب(لماذا؟) وتنتهي ب(لا أدري). أليس كذلك؟