وسط مناخ سياسي ملتهب يلف الشرق الاوسط ويتأجج داخل مصر عادت الدعوة للعودة إلى الجذور الفرعونية والانسلاخ عن العرب مجددا للظهور من خلال طلب رسمي تقدم به مؤسس حزب "مصر الام" للجنة الاحزاب بمجلس الشوري في مطلع الاسبوع الجاري للحصول على موافقته لانشاء الحزب الجديد "مصر الام". "المصريون ليسوا عربا ونريد فصل الدين عن الدولة ونهاجم الفكر المتطرف" هكذا لخص المحامي محسن سعيد لطفي السيد مؤسس الحزب البالغ من العمر 80 عاما اتجاه حزبه العلماني مطالبا بتعلم اللغة المصرية القديمة إلى جانب العربية وإلغاء بعض نصوص الدستور المصري. وتتزامن الدعوة المثيرة للجدل مع انهيار العراق القوة الاقليمية التي تمحورت حولها نسبة لا بأس بها من الفعاليات السياسية في المنطقة خلال عقدين والطريق المسدود الذي وصلت إليه تسوية النزاع الاسرائيلي الفلسطيني واتجاه ليبيا التي طالما أيدت فكرة القومية العربية إلى الانسحاب من جامعة الدول العربية والدعوة الى الأفرقة وفي ظل الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الاسلام الذي يشكل عروة وثقى يلتف حولها العرب باعتبارهم في موطن الدعوة الى الله وحملة مشعل الدعوة. كل ذلك ينذر بانفراط عقد مؤسسة القومية العربية وعقلتها الجامعة العربية التي تعثر أداؤها دائما بسبب ما اعتبر خللا في ميثاقها وفشل أعضائها في تجاوزه أو تعديله أو تقديم ركائز قوية تدعم او تبلور فكرة القومية العربية. ولا يبدو انبثاق فكر نهضوي جديد غريبا في ظل الزخم السياسي الذي تشهده مصر اليوم مع تفاقم الازمة الاقتصادية وفقدان العملة لاكثر من ثلث قيمتها خلال عامين والانتقادات التي باتت تو جه علنا للاداء الحكومي كذلك إعلان القيادة المصرية عزمها اتخاذ خطوات إصلاح سياسي تزامن مع ضغوط أمريكية في المنطقة تسعى إلى اعادة صياغة فهم"شرق أوسط جديد". والجديد الذي يطرحه الحزب هو المطالبة "بإلغاء مادة الدستور التي تنص على أن الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع الاساسي وانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة" وكلاهما موضوعان ساخنان على الساحة السياسية المصرية. رئيس الحزب الجديد قال أنه "لا ينبغي أن يكون هناك دين رسمي للدولة العصرية" وأنه "ليست هناك سوابق مماثلة في مختلف التطبيقات الديمقراطية حول العالم"وتساءل "حتى بافتراض إقرار ذلك فلماذا لا تؤخذ بعين الاعتبار مصالح وثقافة شركائنا في الوطن والتاريخ والمستقبل من الاقباط المسيحيين فينص الدستور على الكتاب المقدس أيضًا إلى جانب القرآن الكريم والمسيحية جنبًا إلى جنب مع الاسلام". ويسعى مؤسسو الحزب أيضا إلى التمسك "بمساندة مطالب الفلسطينيينوالعراقيين باعتبارهم شعوبا مقهورة لا باعتبار أن المصريين عرب". وقال السيد خلال مؤتمر التأسيس"لا يمكن أن نترك حضارة خمسة آلاف سنة لكي نرمي بأنفسنا في أحضان العرب الذين لا يعترفون بنا كعرب". وأشار برنامج الحزب الذي طبع في كتيب أنيق يحمل رسوما فرعونية ورمزا يستقي ألوانه من جغرافية مصر واستخدم للتأريخ شهورا قبطية إلى أن مبادئه "علمانية ليبرالية تعرف أهمية دور الدين في إرساء القيم والاخلاق التي تحمي الفرد والمجتمع من الانحراف بينما تتفرغ الدولة لشؤون العالم الدنيوي الذي يضع البشر قوانينه". وأعلن الحزب إيمانه"بقدرة مصر على قيادة المنطقة تحت رايات القيم الانسانية الخالدة الحق والخير والجمال" التي أسست حضارة الفراعنة على حد قولهم. وتلقي العودة إلى ملامح التكوين الثقافي لمنظر الحزب مزيدا من الضوء على اتجاهاته الفكرية فالسيد هو ابن أخ الاديب الكبير أحمد لطفي السيد وزير المعارف المصرية عام 1916 وصاحب مجلة الطليعة الذي قاد وعميد الادب العربي طه حسين عملية التغريب والعلمنة. وساهم في إنشاء أول جامعة علمانية في مصر وانضم عام 1907 إلى حزب الامة الذي نادى بالتحرر الفكري والتعاون مع أوروبا والتركيز على البعد المتوسطي في السياسة المصرية إضافة إلى كونه أحد مهندسي ميثاق فترة ما بعد ثورة عام 1952 وقد استخدم محسن السيد الكثير من أدبيات عمه في برنامج حزبه الجديد. وعلى الرغم من وضوح الفكر الذي طرحه حزب "مصر الام"إلا أنه افتقر إلى الجدية وآليات التنفيذ فالسيد الذي لا تصب مرحلته العمرية في صالح السباحة ضد تيار ديني قوي له مؤسساته في مصر هو في ذات الوقت وجه جديد على العمل السياسي العلني في البلاد. كما أن جماعته لم تمهد الطريق أمام " ثورة البحث عن الجذور" وسط زخم التيارات الثقافية التي يعج بها مجتمع منهك لا يعبأ كثيرا بالمشاركة السياسية. في الوقت ذاته بدأ السيد مؤتمر تأسيس الحزب بانتهاج سلوك صدامي ضد قوى سياسية مثل الاسلاميين والناصريين والاحزاب والحكومة معا. فقد أكد خلال كلمته أنه"يقف ضد التيار المتطرف المتأسلم" وانتقد عبد الناصر الذي "نجح في جعل المصريين عربا وهم ليسوا كذلك" كما يقول .وحمل الضباط الاحرار الذين قادوا ثورة يوليو"المسؤولية عن تهميش الثقافة والهوية المصرية"كما حمل على العمل الحزبي الهامشي في مصر وطالب بتغيير الدستور. أما رؤية الحزب للسياسة الخارجية المصرية فقد اتفقت مع المنهج الحالي فيما يتصل "برفض وإدانة ممارسات إسرائيل التوسعية العدوانية". و"حيوية العلاقات المصرية الافريقية خاصة مع دول حوض النيل إلا أنها تختلف مع الرؤية الحالية للجامعة العربية التي اعتبرها الحزب "مؤسسة فشلت فشلا ذريعا" فيما أكد ضرورة"تطبيق قاعدة المعاملة بالمثل مع الدول العربية". وشدد على حتمية أن تقوم "العلاقة بين مصر والقوى الكبرى العالمية على المصلحة العليا للوطن" حسبما ورد في برنامج الحزب. ومع احتدام الجدل الذي شهدته الجلسة العاصفة لمؤتمر تأسيس الحزب لم يغب عن المفكر المصري وسيم السيسي نائب رئيس الحزب قيد التأسيس مطالبة الحضور"بالسماحة وسماع وقبول الاخر مهما كانت آراؤه غريبة" مؤكدا على أن حزبه"لا يعادي العرب والعروبة أو اللغة العربية" إلا أنه شدد على أن"تعليم اللغة المصرية القديمة له وجاهته". ومن المتوقع أن ترفض المؤسسة الرسمية في مصر طلب تأسيس الحزب الذي يناهض مبدئيا أولى مواد الدستور التي تنص على عروبة مصر فضلا عن ان الاسم الرسمي للدولة يتضمن صفتها العربية ( جمهورية مصر العربية). يذكر أن قانون الاحزاب المصرية لعام 1977 يشترط مصادقة اللجنة الحكومية على أي حزب قبل أن يكسب شرعيته خلال 60 يوما وتشير التجربة التاريخية مع هذه اللجنة إلى احتمالات رفض كبيرة إذ سبق أن رفضت نحو 60 طلبا مختلفا كان أشهرها الطلب الذي تقدم به"حزب الوسط"ذي التوجه الديني الاسلامي رغم وجود نخبة قبطية ضمن منظريه. وتتباين ردود فعل المراقبين في مصر. فهناك من يعتبرون مصر"إحدى قلاع العروبة والاسلام" ويرون أن هذا الطرح الذي يقوده حزب مصر الام يمثل نتوءاً صغيراً لطائفة انعزالية تختفي وتظهر بين الحين والاخر. وغالبا ً ما تظهر في زمن العجز والانحطاط وعندما تشعر أن ليس هناك من يستطيع الوقوف في وجهها. في الوقت ذاته يرى دعاة القومية العربية أن الهدف من إثارة هذه المعركة الان "هو تحويل مصر العربية ذلك المارد والعملاق التاريخي إلي قزم لا"يهش ولا ينش" وسوف يرتفع مع صوت"الفراعنة الجدد" أصوات تعزل مصر عن فلسطين ولبنان والعراق والسودان لكي ينفرد بهم الشريك الكامل صاحب أوراق اللعبة وخارطة الطريق إلي الهاوية. أما الكاتب الصحفي محمد البدري فيرى أن"أهم سبب يجعلنا نعيد النظر في هو يتنا الحالية هو نظرية المعرفة العربية عن الكون وكيف نتعامل معه فالرؤية العلمية الحديثة تصطدم بشدة في الرؤية الشرقية والعربية الحاملة للمنظور الديني للكون وليس معني ذلك أننا أمام استبدال الرؤية العربية الدينية بالرؤية الفرعونية الاسطورية لان هدف الاستبدال هو الرقي إلي مستوى العقل الفلسفي والعلمي الحديث وليس الارتداد إلي سلفية أيا كان نوعها". سلامة موسى من اكبر دعاة الفرعونية بعد احمد لطفي السيد