بعد الاستفتاح بما هو خير.. أقول انني تابعت، كما تابع الكثير من القراء المقال الاعلاني الذي كتبه ونشره الاستاذ عبدالرحمن بن صالح الشتري، تعقيبا على مقال سبق ان كتبته في (الاقتصادية)، (عدد يوم الاربعاء 22/11/1424ه) تجاوبا مع الفكرة الرائدة في العمل الخيري التي تبنتها جمعية الامير فهد بن سلمان لرعاية مرضى الفشل الكلوي، حيث وقعت مذكرة تفاهم مع وزارة الصحة وهي المذكرة التي حظيت بتأييد ودعم جميع القطاعات الصحية في المملكة (القوات المسلحة والحرس الوطني وقوات الامن العام ومستشفى الملك فيصل التخصصي ومستشفى الملك خالد الجامعي)، وتهدف هذه المذكرة الى ضبط تبرعات اهل الخير والتنسيق فيما بينها وتوجيهها لأجل تعظيم اثرها لصالح مرضى الفشل الكلوي، وقد هبت الجهات الصحية للتعاضد مع الجمعية بعد ان رأت كيف تاهت وضاعت جهود وتبرعات اهل الخير، حيث اصبح لدينا الكثير من المراكز والوحدات، ولكن بقيت الاشكالية الكبرى معلقة وهي: امكانية التشغيل الطبي (الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والأدوية والمستلزمات من محاليل ومستهلاكات) والتشغيل المساند من اداري وخدمات اخرى من اخصائي اجتماعي ونفسي وصيانة. وللحقيقة اقول ان تعقيب الاستاذ الشثري زاد قناعتي ورفع درجة ألمي.. قناعتي بعدم دراسة جدوى هذه التبرعات وهل حققت اهدافها التي يتطلع اليها المحسنون، فبدلا من فتح مراكز جديدة للغسيل الكلوي كنا ومازلنا بحاجة لتقييم مدى استفادتنا من المراكز القائمة حاليا وبحث امكانية زيادة ورفع كفاءة التشغيل لتقل الكلفة للغسلة الواحدة (فالمركز اشبه ما يكون بالمصنع فكلما زاد الانتاج انخفضت التكلفة لوحدة المنتج). اما ألمي فقد زاد عندما عرفت حجم تبرعات اهل الخير التي استعرضها الاستاذ الشثري، وهي تبرعات تضاف الى ما تصرفه الدولة على جميع القطاعات الصحية حيث توفر اجهزة الغسيل ومستلزماتها، فهذه الامكانات تؤكد ان البنية الاساسية للخدمات موجودة، وهذا ما عنيته، وهو ما سخر منه الاستاذ الشثري عندما قال: (بأي منطق يدعي الاستاذ عبدالوهاب الفايز فوضوية هذه التبرعات وانه لم يكن هناك نقص في المراكز والاجهزة). نعم.. انني مازلت اعتقد انه لم تعد اجهزة الغسيل هي المشكلة الاساسية وانما المشكلة في امكانية ديمومة التشغيل الطبي المساند لهذه الوحدات، انها فوضوية تدعو للألم، فكيف نجد لدينا كل هذه الامكانات من الاجهزة ونظل نسمع عن معاناة مرضى الفشل الكلوي الذين يطوون الارض بحثا عن مراكز للغسيل الكلوي، وقد تكون قريبة منهم وهم لا يعلمون، او تكون قريبة منهم ولكن الاجهزة لا تعمل لغياب التشغيل الحقيقي (أي الكامل!)، او تكون قريبة منهم ولكن طابور الانتظار طويل.. طويل. ألا يدعو للألم ان نجد اموال اهل الخير تبذل في مراكز ثم تنتهي معطلة، لأن تكاليف التشغيل غير متاحة، ولأن احدا لم يأت لينظم التبرعات ويوجه جزءا منها للتشغيل والصيانة وتأمين المحاليل والأدوية للمراكز القائمة. ايضا، عندما تحدثت عن التبرعات كنت اشير الى جزء من اشكالية مرضى الفشل الكلوي، والذي نعرفه هو ان هناك الكثير من الاشكالات الاخرى الرئيسية والتي تتطلع جمعية الامير فهد بن سلمان الى التصدي لها، مستعينة بتبرعات وجهود اهل الخير الذين يتطلعون الى وجود مؤسسة تتولى التنسيق والتوجيه والتنظيم لتبرعاتهم المادية والمعنوية بمشاركة المختصين والمهنيين. والجهود المرتبكة لاعمال الخير والتي نجد صورة منها في مجال رعاية مرضى الفشل الكلوي هي التي جعلتني (أحتفي) بالجهود الجديدة التي اطلقتها جمعية الامير الانسان الكبير الراحل فهد بن سلمان رحمه الله لأننا نسمع ونعرف عن حجم معاناة المرضى، وهذا الوضع هو الذي جعلنا ايضا ندعو لدعم استثمارها حتى لا (يعزف) أهل الخير عن دعم مرضى الفشل الكلوي عندما يتداعى الى سمعهم ان تبرعاتهم لايستفاد منها وانها تحولت الى اطلال! هذا هو الدافع من اثارة الموضوع، وهو ما فهمه الاستاذ الشثري بشكل مغاير، والذي يرى او فهم انني مع غيري، (نحاول التشكيك في جدوى هذه التبرعات) لمجرد التشكيك و(لتثبيط الهمم) ودفع اهل الخير بعيدا عن الاقدام على البر وعمل الخير، وهنا كنت اتمنى لو ان والدنا واخانا الحبيب الاستاذ الشثري، الذي نكن له كثيرا من الاحترام والتقدير نظرا لجهوده الانسانية المشهودة في خدمة مرضى الفشل الكلوي، كنت اتمنى لو انه تجاوز هذا الرأي او (الظن) الذي فهمه البعض بشكل سلبي، فهل يعقل ان يأتي انسان لديه قوى عقلية ونفسية اعتبارية، حتى في حدودها الدنيا، ليشكك في اعمال الخير ويكون همه التشهير بها وبمن يتصدون لها.. هذا جنون بالطبع! عندما قلت ان لدينا فوضى في مفهوم عمل الخير الموجه لخدمة مرضى الفشل الكلوي.. فقد عنيت ما وصفت، وكلنا نعرف اننا كدولة وكمجتمع نعيد ترتيب وتنظيم اعمال الخير، ومنذ سنوات بعيدة طفق اصحاب الخبرة والعلم، ممن يغارون على حسنات المؤمنين، يدعون الى ضرورة توجيه نزعتنا الانسانية العظيمة الفطرية لعمل الخير، فنحن في مجتمع اعطاه الله النعم واعطاه حب الانفاق في سبيله، وكان الكثيرون يتسابقون الى حصر تبرعاتهم في المجالات العينية الحسية، فقد كان هذا هو الخطأ الذي وقعنا فيه، ومن حسن الحظ ان اصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ هم اول من تصدى بالحكمة والموعظة الحسنة الى ايضاح اهمية توجيه التبرعات الى فضاءات الاحسان والحاجات الواسعة للناس في الصحة، التعليم، الاسكان، ورعاية الايتام والأرامل.. وغيرها في الداخل قبل الخارج. وحتى يعطى هذا الموضوع بعده الوطني ليشعر كل واحد منا بمسؤوليته تجاه العمل الخيري، قبل عامين رعى سمو ولي العهد حفظه الله لقاء الجمعيات الخيرية الذي كان مخصصا للتباحث بشأن رفع كفاءة العمل الخيري والقضاء على سوء ادارته، أي: (الفوضى)! وربما الهبة الكبرى التي لمسناها في السنوات الأربع الماضية لدعم مرضى الفشل الكلوي عبر انشاء المراكز، هي استجابة عملية لمدى وعي الناس وقناعتهم بتوسع ساحة عمل الخير وهنا يجب ان اشير إلى ان استاذنا الكبير عبدالرحمن الشثري تطوع كثيرا لاستقطاب نفقات المحسنين لدعم مرضى الفشل الكلوي بحكم عمله نائبا لأمين عام الجمعية الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي، (وهو ايضا عضو مجلس ادارة) والتي يرأس مجلس ادارتها سمو الامير سلمان بن عبدالعزيز، واستمرت عضوية الاستاذ الشثري في مجلس الادارة بعد تعديل نظام الجمعية التي حولت لتكون (جمعية الامير فهد بن سلمان)، تثمينا وتخليدا لدوره في خدمة المرضى، والأمير الراحل لو شاءت ارادة الله سبحانه وتعالى ان يبقى بيننا ينشر الحب والخير لكان صاحب اليد الطولى في رعاية مرضى الفشل الكلوي. وحتى الاستاذ الشثري، هو وغيره من الكثيرين المخلصين في عمل الخير الذين نعرفهم والذين يختفون احتسابا للاجر والثواب، حقهم علينا ان ندعو لهم في ظهر الغيب، وواجب علينا ان ندعو للاستاذ الشثري ان يمده الله بالصحة والعافية ليواصل مساعيه النبيلة، وأبو هشام نموذج وطني يجب ان نحتفي به، خصوصا في هذه المرحلة حيث نتطلع الى ايجاد ثقافة جديدة في مجتمعنا وهي (ثقافة العمل التطوعي الخيري الانساني)، فهذا هو أساس المجتمع المدني، وهو الأهم من الانتخابات، وهو الأهم من التسابق الى المناصب او المكاسب الدنيوية الزائلة، والناس عيال الله، وأحب العباد الى الله خيرهم لعياله. ثمة واقع اود ان ادفع اطراف اصابعي قريبا منه لأنه يؤلم.. وهو يدعم ما ذهبت اليه من فوضوية التبرعات لمرضى الفشل الكلوي، ففي الواقع هناك الكثير من اجهزة الغسيل المعطلة، (ليست معطلة في ذاتها وانما لم تشغل في اماكن ولم تشغل بالطريقة المثلى في اماكن اخرى)، فمثلا في مركز الملك فهد في مجمع الرياض الطبي (الشميسي) هناك ما يقارب 104 وحدات وما يشغل منها ويستفاد منه ربما نصف هذا العدد، وهناك 100 وحدة تبرع بها المحسنون لمركز الامير سلمان، وهي الاخرى لم تستثمر لعدم وجود برنامج متطور للتشغيل والصيانة، وهذان مثالان من عشرات الامثلة للمراكز التي لاتعمل كما يتوقع المحسنون، ووزارة الصحة لديها الخبر اليقين الذي يؤكد ما ذهبت اليه، وهو اننا لانعاني من نقص في عدد الاجهزة. لقد حققنا في السنوات الماضية قفزة نوعية في بناء المراكز، ولكن تبقى المعضلة الكبرى محصورة في عدم امكانية استمرارية تشغيلها وفي توسيع مفهوم الخدمة لتشمل الرعاية الصحية، الاجتماعية، والنفسية. والمختصون يؤكدون ان (ماكينة) الغسيل وحدها لن تحل مشكلة مريض الكلية اذا لم تتوافر جميع المقومات لرعاية المريض قبل وأثناء وبعد الترشيح الدموي، ويؤكدون ايضا على ان التحدي هو في توفير الموارد للتشغيل، فمثلا المركز الذي يكلف انشاؤه (مليون ريال) ليوفر عشر ماكينات ليخدم 60 مريضا، يحتاج الى ما يقارب خمسة ملايين ريال سنويا، وهذا للغسيل فقط، وتقفز التكلفة الى حدود ثمانية ملايين ريال سنويا، اذا اضيفت الادوية، وترتفع المتطلبات اذا اضفنا تكلفة دخول المريض لاستشارات داخلية في المستشفى، اوالتنويم او غير ذلك.. فهذا يؤكد ان الانشاء وحده لا يوازي شيئا بجانب تكاليف التشغيل، فاذا كان التبرع لعشر وحدات غسيل لايتعدى مليون ريال، فان تشغيل هذه الوحدات التشغيل الامثل لايقل عن ثمانية ملايين ريال. وبما ان المقال الذي كتبته عن الفوضى في مفهوم التبرعات الخيرية لمرضى الفشل الكلوي كان يتناول مذكرة التفاهم بين جمعية الامير فهد بن سلمان ووزارة الصحة، فأرجو ان يعذرني القائمون على الجمعية للعودة اليها مرة اخرى، لأقول ان ما تسعى اليه الجمعية هو امتداد للدور الذي تتصدى له مؤسسات الدولة لتوجيه العمل الخيري، فمثلا تبرعات المساجد اخضعت الى تنظيم عملي وزع صدقات وتبرعات المحسنين بشكل منظم، فوجدنا ان المساجد ظهرت من بطون الاحياء الى الشوارع الرئيسية وهذا عظم فائدتها وعزز الطابع الاسلامي لمدننا، ولذا فان الجمعية تقريبا تتبنى هذا التوجه فهي تسعى لتحسين وتطوير ورفع مستوى الاداء المقدم لمرضى الفشل الكلوي من خلال تنظيم التبرعات العينية والنقدية لضمان ديمومة عمل كل مراكز غسيل الفشل الكلوي على اكمل وجه حتى تؤدي رسالتها الانسانية. وبخصوص جانب اشار اليه الاستاذ الشثري وهو ان الذين سعوا في سبيل جمع التبرعات لمرضى الفشل الكلوي كانوا (ينسقون) مع وزارة الصحة. هنا اقول ان التنسيق الذي تحدث عنه الشثري في مقاله ربما لم يكن بالكفاءة التي تتطلبها مفاهيم الرعاية الشاملة لمرضى الفشل الكلوي، ولو كان هذا التنسيق بالصورة التي ترضى عنه الوزارة، بمفاهيمها وطموحها الجديد، لما بادرت بتوقيع مذكرة التفاهم مع الجمعية، وهي المذكرة التي دعمتها ايضا القطاعات الصحية الرئيسية في المملكة، وبالنسبة لمذكرة التفاهم التي جمعت اطراف الرعاية الصحية، عمل على صياغتها فريق متخصص من الاطباء والمسؤولين والمستشارين القانونيين، واجزم ان المصلحة العامة للمرضى واستثمار تبرعات المحسنين كانت هي وقود جهودهم التي اثمرت عن هذه الخطوة المهمة، وعموما.. هنا اود توجيه سؤال وهو: بما ان الاستاذ الشثري عضو في مجلس ادارة الجمعية وله اهتمامه بهذا الجانب، اذن اين المشكلة في اقدام جمعية هو عضو فيها لان يكون لها الدور الفاعل عبر هذه المذكرة التي هي آلية تحقق لكل المهتمين مواصلة جهودهم الخيرة لخدمة مرضى الفشل الكلوي؟ اجزم ان ما قلته لايقلل من قيمة التبرعات للمحسنين ولا حجم تبرعاتهم وانما هي دعوة للترشيد والاستخدام الامثل للموجود من الموارد المتاحة، وما قلته هو رغبة في تحقيق اهدافهم الخيرة وديمومة الاجر لهم باذن الله تعالى والدعوات الصالحة لهم مع كل غسلة من غسلات المحتاجين من المرضى. فالمقال كان حول مفهوم التبرعات وفوضى فهمه، وليس المقصود فوضى التبرع ذاته، وانما كل ما يمكن ان نقوله هو اننا نكن لهم التقدير والاحترام والرجاء من الله الا يحرمهم الاجر. مرة اخرى تحية لاستاذي عبدالرحمن الشثري على مبادرته لاثارة هذا الموضوع، واضم صوتي الى صوته في دعوته لزملائي واساتذتي رؤساء التحرير لبحث هذا الموضوع الوطني، واقترح ان تكون هناك زيارات ميدانية للمراكز القائمة لمعرفة اوضاعها التأسيسية وبنيتها التحتية وتجهيزها وظروف تشغيلها، ومدى فاعلية استغلالها ومردودها على مرضى الفشل الكلوي، وبالتالي مردود الاجر للمحسن والمتبرع باذن الله، وكل ما نرجوه بالطبع هو ان تكون محققة للاهداف الانسانية التي يتطلع اليها المحسنون، وكل عام والجميع بخير. * رئيس تحرير الاقتصادية