من الموضوعات التي يكثر الجدل حولها هذه الأيام مشروع تدريس الإنجليزية في المدارس الابتدائية وقد ظهر اتجاهان أو أكثر بين الناس فمنهم من يرفض ومنهم من يتحمس ومنهم من يتوجس وفريق يذهب بعيدا فيتخوف وكل له وجهة نظر تحترم وتناقش فالأمة تعيش عصر الحوار ومما يعزز أدبيات الحوار تعويد الناس على المناقشة العلمية الهادئة التي تعرض جميع وجهات النظر وترصد نقاط القوة ونقاط الضعف وتبتعد عن الرأي الانفعالي الذي يرفض فقط لمجرد الرفض أو للرأي الاستاتيكي الجامد الذي ينغلق على ما هو عليه ويخشى فكرة التجديد (فليس في الإمكان أبدع مما كان). ونحمد الله أن القائمين على المؤسسات التربوية فيهم نخب كثيرة تحرص على المتابعة ونقد المناهج، وتاريخ إدارات التطوير والتجديد قديم وجهودها مثبتة، وهناك دراسات ومقترحات قديمة طويت في الأدراج وتحتاج إلى من يوقظها! وينفض عنها التراب وبالتعبير العلمي الدقيق أن يتصدى لها صاحب قرار يعمل على تفعيلها ويبث فيها روح التنفيذ، فنظرة إلى نتائج الدراسات العلمية ( الماجستير والدكتوراة) ستجد فيها لجان التجديد والتطوير خيرا كثيرا. أما موضوع تدريس الإنجليزية في المدارس الابتدائية فذاك أمر لا علاقة له بالظروف التي نمر بها بل هو قضية ضرورية تفرضها مسوغات علمية واجتماعية ولا يصح أن نقحم الشأن السياسي في قضايا تحقق لمجتمعنا مصالح حضارية وقد عجبت لبعض الآراء التي ترفض تدريس الإنجليزية مبكرا في المدارس الابتدائية فقط لرفضها الهيمنة الأمريكية لذا فهي ترى أن التصدي لهذا الاتجاه يعني رفضها الهيمنة الأمريكية وهذا خلط كبير قد يضيع مصالح على الأمة فتدريس اللغة الثانية مبكرا قد أخذ به في كثير من الدول العربية وغيرها وتاريخه متقدم على تاريخ الوجود الأمريكي نفسه. أما المتخوفون من سطوة اللغة الإنجليزية وأنها ستزيح لغتنا العربية فنطمئنهم أن العربية لا يمكن أن تكون لغة مزاحة فوجودها قدر إلهي لأنها لغة القرآن الكريم المحفوظ بأمر الله "إِنَّا نَحءنُ نَزَّلءنَا الذِّكءرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون" ومن يرى أن الطفل غير قادر على تعلم لغة جديدة وأن في ذلك مشقة عليه فالرد أن بإمكان أن يتعلم أكثر من لغة في سنه المبكرة دون أن تجور لغة على أخرى، ويقدم علم اللغة دليلا واقعيا على القدرات الفطرية عند الطفل على قابلية تعلم أكثر من لغة مبكرا فهو يتعلم اللغة الفصيحة بعد أن تعلم العامية في بيته وتشرب بنظامها اللغوي الذي يخالف الفصحى في أمور ويتفق معها في أمور أخرى ومحصلة القول : انه يتعلم النظام اللغوي الفصيح كأنما يتعلم لغة ثانية. وأما ضعف الطلاب في العربية الفصحى فليس مرجعه وجود لغة أخرى بل مرده أنها لا تعلم تعليمًا صحيحًا يكفل للمتلقي أن يجيدها إجادة كافية وأسباب أخرى تتصل بالمجتمع الذي لا ينظر إلى الفصحى على أنها مطلب حيوي ووطني فلا يلقى المتحدث بالفصحى التقدير أو الاحترام أو القبول الذي يجعله قدوة يرى المجتمع حينها أن إتقان تعلم الفصحى مطلب لا بد أن يسعى لتحقيقه. وهناك من يقول إن في تدريس الإنجليزية في المدارس الابتدائية إضافة أعباء على كاهل الأبناء وأولياء الأمور الذين يقومون بالاستذكار لأبنائهم بعد عودتهم من المدارس ويرد على ذلك بأن خطة المناهج المدرسية لابد أن يطرأ عليها التطوير والتعديل كاملة فتتخفف من ثقلها غير المبرر ويعاد النظر في محتواها حتى نجد مكانا في الخطة للمنهج الجديد وأحسب أن القائمين على دراسة هذا المشروع لم يغفلوا عن كون التطوير كلاً لا يتجزأ فلا يمكن أن نصلح جانبا ونبقي على قديم مهترئ يضر الجهد الإصلاحي ويهوي به (وكأنك يا زيد ما غزيت) فتنفيذ المنهج لا بد له من كفاءات تعليمية مؤهلة ذات اقتدار لا تركن إلى جهد أولياء الأمور في المنازل أو تتكئ على ما يحصله الطالب من المدرس الخصوصي وتلكم مصيبة ابتلي بها مجتمعنا المعاصر فلم تعرفها الأجيال السابقة فمن مشاكل تعليم اليوم أن الطالب يفرغ من الدوام المدرسي ليتلقفه! ولي أمره وعادة تكون الأم فترهقه بالشرح والتحفيظ ثم تسلمه للمدرس الخصوصي الذي يقضي على ما تبقى من رغبة وقدرة على التحصيل وهذه هي المشقة لا تعليم لغة ثانية. إن المعلم الكفء هو من يتقن طرائق التدريس الحديثة فينتقي ما يناسب القدرات الفردية فيكون عونا للأسرة ومرشدا لا مكلفا ومرهقا. إن تدريس الإنجليزية في المدارس الابتدائية سيخرج جيلا متعدد الثقافات مطلعا على فكر الآخر قادرا على النقد والتمحيص والمقارنة، على ما لأهمية هذه اللغة من كونها لغة حضارة هذا العصر فالأمة التي تنتج الحضارة تكسبه لغتها وعندما كانت العربية لغة حضارة انتاجية سادت العالم. ومكسب آخر حيوي فالتدريس سيطلب جيشا من المعلمين ولدينا قوافل تنتظر من خريجي أقسام اللغة الإنجليزية وكليات اللغات والترجمة فهو باب من أبواب محاربة البطالة والقضاء عليها. والموضوع يستحق الدراسة مليا وبعناية قصوى بعيدا عن التشنج والرفض غير المبرر.