من إيجابيات الأقمار الصناعية والشبكة العالمية للمعلومات وكذلك الأحداث والأزمات المتلاحقة التي مرت بها المنطقة العربية منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، أنها قد أتاحت لكل مراقب معني بشأن المشهد الثقافي العربي (ثقافة الجمهور) الإشراف على هذا المشهد من كافة زواياه. وقراءته قراءة لا مجال فيها للخطأ لمن يمتلك رؤية شفافة محايدة. سيجد المشاهد مسرحا مكتظا بشخوص ولافتات، وسيجد نظَّارة تصفق دون أن تسأل لمن ولماذا؟ وهو ما يصفه أحد الكتاب ب (التصفيق الثقافي)، وسيجد ضمن هذا المشهد، كذلك، أن الأمثال لدى العامة فوق الوقائع والأرقام، والأحلام فوق التفكير العقلاني، والنظرية عند الخاصة فوق الممارسة، والبلاغة فوق الحقيقة ألا يمكن أن يكون الكلام بليغا وبعيدا عن الواقع، أو بليغا وزائفا في الوقت نفسه؟ أليس غريبا أن يتدفق أحدهم بقصيدة عصماء ذات شحنات عاطفية عالية (220 فولت) خلال مناظرة ينبغي أن تسود فيها لغة التحليل العلمي الهادئة، والطرح الواقعي الرصين؟ وهل من المعقول أن تتداخل حدود الشعر ولغته المجازية الحالمة مع حدود الاقتصاد والاجتماع والسياسة؟ إن العاطفة وحدها لا تصنع مستقبلا، ومع ذلك فإن عواطف (الأشقاء) جياشة متقدة حتى لو كان الحديث حول أفضلية الملوخية على السبانخ أو العكس. وتتساءل: لماذا يناقش الآخرون قضاياهم بأعصاب هادئة، ويناقش (الأشقاء) شؤونهم بأعصاب مشدودة؟ ولماذا يسود العنف اللغوي كل ساحة "فترى بها الرايات تخفق والقنا وترى العجاج كمثل بحر مزبد"!! سيجد المشاهد، كذلك، من يفضل الإقامة في التاريخ على قراءة الحاضر قراءة موضوعية والتفاعل مع المستجدات تفاعلا خاليا من الجعجعات حيث الوراء وما وراءه هو وقود كل سجال، وحيث لا تجد لدى (الأشقاء) رغبة في فهم الواقع ومتغيراته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. يشخص برهان غليون هذه الحالة ب "عجز الفكر عن الإمساك بالواقع أو التحكم به. وهذا العجز ليس إلا من نتائج المنهج السجالي الذي يجد مبرراته في صحة الأيدلوجيات والمواقف الذاتية وفي الدفاع عنها أكثر مما يجدها في معاينة الواقع وفهمه وتحليل عناصره" أما المشاجب التي تعلق عليها كل الإخفاقات التاريخية فحدث ولا حرج. أول تلك المشاجب، والكلام لغليون، هو أن "الواقع هو النشاز وهو الخاطئ والمتخلف واللاعقلاني وليس النظرية". تأمل، على سبيل المثال، كيف تختلط الأمور، وينحرف الحوار عن مساره حتى يلامس حدود السريالية: فقد كرست إحدى الفضائيات العربية، يوم الأحد الماضي، أحد برامج الحوار (المباشر) لتبادل الآراء بين المشاهدين حول "القمة العالمية الأولى لمجتمع المعلومات" المنعقدة في جنيف خلال هذا الشهر، وكان ينبغي أن يتركز الحديث حول برنامج هذه القمة الرامي إلى إزالة أو تقليص الفوارق بين بلدان الشمال والجنوب في مجال الاتصال وتقنية المعلومات، وإبراز حق الجميع في الحصول على المعلومات. لكن بعض (الأشقاء) المتصلين أبوا إلا أن يزجوا بأسماء وشعارات ولافتات لا علاقة لها بالثورة المعلوماتية، وكان التشنج والصراخ سيدا الموقف. أما أطرف تلك الاتصالات فقد كان خطابا انفعاليا مجلجلا عن كرامة الأمة وعن العزة والمجد والسؤدد وبقية المفردات والشعارات واللافتات والاسطوانات التي راجت منذ بداية الخمسينات. ترى ما علاقة ذلك كله بتقليص (الفجوة الرقمية) بين بلدان الشمال والجنوب. وعبثا حاولت المذيعة المغلوبة على أمرها أن تذكر (الأشقاء) المفوهين، وبطريقة مهذبة، بأن موضوع البرنامج هو الثورة المعلوماتية التي لا علاقة لها بذلك الردح القديم القائل: "بالروح بالدم .. نفديك يا أي حاجة!!". وعبثا يحاول بعضهم أن يذكر أولئك المفوهين بأن تلك الاسطوانة لم تعد تطرب إلا فاقد الذاكرة ممن يفضل العوم في الفراغ، و يسكن الغياب، و يجري وراء السراب. وباستثناء هذا النموذج، أصبح الناس معنيين باهتمامات أخرى وثيقة الصلة بحياتهم اليومية، ولم تعد تدغدغ مشاعرهم تلك المفردات التي تلاك في الصباح والعشية، دون أن توفر للمواطن العربي فولا أو طعمية. تذكرنا اهتمامات الفرد البسيطة بأحد شخوص مسلسل (صح النوم) حيث عمل (غوار) وزميله في الشطارة والعيارة (أبو عنتر) على أن تفقد الحارة ذاكرتها لكي يتسنى لهما أن يسرحا ويمرحا في الحارة دون رقيب أو حسيب، وقد فعلا خلال تلك الغيبوبة الجماعية الأفاعيل، واستوليا على كثير من الأشياء. وكان بين ضحاياهما قروي بسيط ضحكا عليه واستوليا على حماره، بعد أن أقنعاه بأنهما سوف يعلمان الحمار القراءة والكتابة. وعندما عادت ذاكرة أهل الحارة وتزاحم ضحايا ذلك المقلب ليستردوا ما فقد منهم، كان هم القروي المسكين هو استرداد حماره، وكان المسؤول مشغولا عنه بحصر الأضرار التي لحقت بالآخرين. ولذلك كان القروي يمد رأسه من بين الجموع من حين إلى آخر قائلا: "قول له على حماري"! وهو مطلب قد يبدو بسيطا لكنه أساسي وملح. وإذا استثنينا فاقد الذاكرة أي ذلك الذي لم يستوعب الدرس جيدا، ولا يعرف ماذا يريد، أو لمن يصفق، ولماذا يصفق، أقول: إذا استثنينا بعض هذه النماذج، فإن الناس مثل ذلك القروي، قد بدأت تهتم بما يمس حياتها، وتود أن تخاطب بمفردات من قاموس اهتماماتها اليومية الصغيرة.