يصف اللَّه تعالى ليلة القدر بأنها {خَيءرٌ مِنء أَلءفِ شَهءرٍ} وأنها ليلة التقدير {فِيهَا يُفءرَقُ كُلُّ أَمءرٍ حَكِيمٍ} حيث تتقرر الأحداث والأقدار والقضايا المصيرية، التي ترتبط بالإنسان والحياة، في هذه الليلة، من قبل اللَّه تعالى. فليلة القدر إذاً ليلة التقدير الإلهي، لما يجري على الناس في سنتهم القادمة، وليلة القرارات الإلهية الكبيرة، فلتكن إذا هذه الليلة ليلة القرارات الحاسمة عند الإنسان. فكم يكون التوافق مباركاً، وذا قيمة عظيمة، أن يوقت الإنسان لنفسه، اتخاذ قراراته المصيرية والرئيسية، في تلك الليلة المباركة، التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى موعداً وميقاتاً لقدره الذي يقدره على الناس. ثم تأتي الأجواء الروحية العظيمة التي تكتنف هذه الليلة، لتزيد من حظوظ الإنسان في اتخاذ قرارات مصيرية صائبة موفقة. وليس من شك أن دائرة قرارات الإنسان في هذه الليلة المباركة، ينبغي أن تتسع بحيث تشمل كل ماله دور وتأثير في استقامته وصلاحه، وأن تشمل طموحات الإنسان الدنيوية والأخروية، فيضع لنفسه مخططاً وبرنامجاً عملياً وسلوكياً يسير عليه في سنته القادمة.. ثم يعاهد اللَّه في تلك الليلة، بل وفي ليالي القدر المحتملة كلها، على أن يستمر في تطبيق ذلك البرنامج، ويطلب من اللَّه المدد والعون، وأن يجعل قضاءه وقدره جل وعلا موافقاً لأمنياته وطموحاته الخيرة. فلسفة الاستغفار إن واحداً من أهم الأعمال في هذه الليلة هو الاستغفار. إن الاستغفار الحقيقي ليس هو مجرد قول: (( استغفر اللَّه )) وتحريك اللسان بهذه الألفاظ، بل إن هذه الألفاظ ينبغي أن تكون شعاراً ظاهراً، لقرار عميق الجذور في نفس المستغفر. إن مصداقية الاستغفار -في الحقيقة- مرهونة باشتماله على خطوتين رئيسيتين هامتين: الأولى: اكتشاف الخطأ، والإقرار بوجوده، وأنه خطأ لا يجوز الاستمرار عليه. الثانية: التصميم على الإقلاع عنه والتخلص منه. فإذا ما عرفت الخطأ وشخصته، ثم صممت على تجاوزه والإقلاع عنه، فتعلن حينئذ عن قرارك القلبي، بلسانك وتقول: (( أستغفر اللَّه ربي وأتوب إليه )) . إن الاستغفار بهذا المعنى يتحول من ذكر مجرد، إلى نقلة نوعية نحو واقع أفضل وأصوب، ويصبح دواءً لأمراض الإنسان وعلله. أما إذا كان الاستغفار مجرد تحريك اللسان، ولا يكشف عن أي تصميم داخلي للإقلاع عن الذنب، فإنه -والحال هذه- يتحول إلى ذنب يؤاخذ عليه الإنسان، وما أبلغ قول الإمام علي (عليه السلام)في الإشارة إلى هذه الحقيقة: (( الاستغفار مع الإصرار ذنوب مجددة )) ذلك أن هذا الاستغفار عبارة عن وعد قولي قاطع، مع عزم داخلي على عدم الوفاء به، واللَّه تعالى مطلع على ما في نفسك. إن كل إنسان معرض للخطأ ولا ينجو من الوقوع فيه إلا من عصم اللَّه يقول تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفءسِي إِنَّ النَّفءسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} والتوفيق هو أن يتنبه الإنسان لنفسه أنه يسير على خطأ ما، أو أنه لم يتوفق بعد للوصول إلى كمال من الكمالات السامية، وهذه هي بداية التوفيق الإلهي، حيث هي نقطة التحول نحو الهداية. يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )) . والاستغفار تصميم على تغيير السلوكيات الخاطئة، وان تحولت إلى عادة ألفها الإنسان فترة طويلة. ولعل في الأمر شيئاً من الصعوبة، ولكن ما أعطاه اللَّه للإنسان من إرادة وعزم، وعقل وقدرة على الاختيار، كل ذلك يتيح للإنسان التغلب على نواقصه وأخطائه. لقد استخدم المسلمون الأوائل إرادتهم، وتخلصوا من الشرك، واعتنقوا الإسلام، رغم أن عادات الشرك كانت قد تحكمت فيهم، وأصبحت جزءاً لا ينفك من حياتهم. وهؤلاء الذين يدخلون الإسلام حديثاً كيف يستطيعون أن يتخلصوا من عاداتهم المشابهة؟.. وقد نقلت جريدة الشرق الأوسط تقريراً عن خواطر بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً، وكان من بينهم السفير الألماني السابق الدكتور (مراد هوفمان) ذكر فيه: أنه كان مولعاً بشرب الخمر، وكان خبيراً بأنواعه المختلفة، وكان يتصور أن من الصعب عليه جداً أن يترك الخمر، وأنه لن يستطيع أن ينام جيداً دون جرعة من الخمر!! ولكنه حينما اقتنع بالإسلام والتزم بأوامره، تسلح بالإرادة وتغلب على تلك العادة الخاطئة المتأصلة في حياته. والأدعية المأثورة التي يقرأها المؤمن في هذا الشهر الكريم ليست هي بذاتها -كما يظن البعض- العلة التامة لحصول المغفرة، بل إنها وسيلة لتذكير الإنسان، وصرخة لدفعه، وأرضية روحية تهيئه للتغيير والتحول، فإن كان ثمة خطأ يحتاج إلى التغيير فليكن قرارك الآن بتغييره. فمثلاً: كيف تتعامل مع أداء الصلاة؟ هل تؤديها لوقتها أم تتساهل فيها؟ وهل تواظب على صلاة الجماعة أم لا؟ وإذا كنت مستطيعاً للحج ولم تحج فكيف يجب أن تصل إلى قرار بالحج؟ وماذا عن أداء الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة؟ وفي الجانب السلوكي كيف تعاملك مع عائلتك؟ هل أنت قائم بواجباتك تجاه والديك وزوجتك وأولادك؟ وأين هو مجال التقصير والنقص؟ وفي العلاقات الاجتماعية هل لديك عداء مع أحد؟ ولماذا تستمر في العداء مع آخرين من أبناء مجتمعك؟ وحتى في العادات الشخصية كالتدخين، والعادات غير المناسبة صحياً أو اقتصادياً، عليك أن تتحلى بالشجاعة لاتخاذ قرارات التغيير والتحول تجاهها. إن تلاوة القرآن وقراءة الأدعية المأثورة، والوعي بقيمة الزمن المبارك كليلة القدر، كل ذلك يحفز إرادة الإنسان، ويستنهض شجاعته، ويستثير ثقته بنفسه، ليتخذ القرارات الصعبة التي يغيّر بها الخطأ من عاداته وممارساته. كما أن للأجواء المحيطة بالإنسان إن كانت صالحة أثرا في مساعدته على التحّول إلى الخير والصلاح. وعلى العكس من ذلك لو كان ضمن أجواء سلبية فاسدة. فليكن قراره الأول هو مغادرتها والتخلص منها. إن البعض قد يقرر ولكنه يضعف ويتراجع عند التنفيذ، والبعض يلتزم بقراره لفترة ثم يتساهل ويميّع قراره، وهذا يكشف أنه لا يحترم نفسه، ولا يقدّر التزاماته تجاهها. نرجو أن يوفق اللَّه الجميع لاغتنام فرصة هذه الليالي المباركة لاتخاذ القرارات التغييرية نحو الأفضل، ولو اتخذ كل إنسان منا ولو قراراً واحداً صالحاً، والتزم به طوال السنة لأدركنا خيراً كثيراً.