(رمضان) هو (شهر) ولكنه بكل تأكيد ليس كبقية الشهور فقد كرمه المولى عز وجل بان جعله (شهر القرآن) وشهر (العبادة) وشهرا (للبر والاحسان) من هنا فلا غرو ان بلغ من تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم جميعا به انهم كانوا - كما ورد في الأثر - يستعدون لاستقباله قبل ستة شهور من قدومه ويودعونه خلال الاشهر الستة التي تليه ولم يكن هذا ليحدث لولا مكانة هذا الشهر الكريم في نفوسهم. ... لقد اراد الله للاسلام الذي تنزل دستوره الالهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ان يكون دين هداية, ومحبة, واخاء للعالم اجمع, والاهم من هذا وذاك منهج اصرار وعزيمة على تبليغ الرسالة الربانية حتى وان كان الثمن دماء زكية تراق بغية مرضاة الله عز وجل, والفوز بجنات نعيمه, فكان من هذا المنطلق منهج حياة, وعقيدة ربانية سطعت انوارها لتضيء وجه هذه المعمورة بما رحبت, وعاش الانسان (المسلم) في ظلها عملاقا قاده ايمانه بالله اولا, ثم بدوره الذي اراده الله له من نصر لآخر فسطر على صفحات التاريخ حروفا من نور. ... فلقد عاش الوطن العربي - الاسلامي الكبير قبل بزوغ فجر الاسلام موزعا بين دولتي الروم والفرس, وان كان للعرب قبلهما دول وممالك ممتدة في الشام والعراق واليمن, الا ان الدعوة المحمدية كانت في التحليل النهائي المتغير الأهم في حياة العرب التي غيرت كل شيء وبطريقة لم يعهدوها من قبل ولم تخطر لهم على بال. ... فسرعان ما حلت رابطة الاخوة في العقيدة محل رابطة العصبية القبلية الممقوتة واتضحت معالم رسالتهم في الحياة فانطلقوا باسم الله وعلى بركته فاتحين ومبشرين برسالتهم السماوية ناشرين قيم الحق, والعدل, والمساواة, وليس كما كان يرى فيهم كارل ماركس واعوانه من منظري الفلسفة الماركسية غزاة باحثين عن الثروة ورأس المال. ... ودار الزمن دورته لتنتقل الدولة الاسلامية من مرحلة لأخرى بدءا بدولة المدينة التي ارسى معالم حكمها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, مرورا بدولة الخلافة الراشدة (1 -40ه 632 - 661م) فتسعون عاما (41 - 132ه/661 - 750م) من عصر الدولة الامبراطورية في عهد الخلافة الأموية, والتي حولت بعدها الى دولة عالمية طال بها الأجل لفترة زمنية قاربت الخمسمائة (132 - 656ه/750 - 1258م) في عهد الخلافة العباسية والتي كان يمكن لها ان تعمر - بمشيئة الله - لأكثر من ذلك لولا مجموعة من الأسباب والعوامل التي لعبت دورا مهما في انهيارها, والتي قد لا يتسع المجال للتطرق اليها في هذه المقالة. ... لقد كانت تجربة ملوك الطوائف التي مرت على الدولة الاسلامية العباسية في عصرها الثاني (847 - 1258م) وان كانت المسمار الذي دق في نعش الدولة العباسية الا ان ذلك يجب الا يمنعنا من القول انصافا للحق والتاريخ ان بعضا من ملوك الممالك قد قدموا ملاحم للبطولة والعطاء انتصارا لدينهم وعقيدتهم وكان الكثير منها قد اخذ من (شهر رمضان) زمانا له. ... ان دولة قد تقطعت اوصالها الى دولة الأدارسة في المغرب: (172 - 314ه/789 - 926م), والدولة الطولونية في مصر وسوريا (254 - 292ه/868 - 905م) ودولة الحمدانيين في اجزاء اخرى من سوريا والجزيرة (293 - 394ه/905 - 1004م) والدولة الفاطمية في مصر: (297 - 567ه/909 -1171م) والدولة الأخشيدية في مصر واجزاء من الشام (323 - 358ه/935 - 969م), والمزيديين في وسط العراق (350 - 545ه/961 - 1150م) ودولة العقيليين في العراق والجزيرة وشمال سوريا (380 - 489ه/990 - 1096م), ودولة المرداسيين في حلب وشمال سوريا (414 - 472ه/1032 - 1079م) ودولتي المرابطين (448 - 541ه/1056 - 1147م) والموحدين في شمال افريقيا (524 - 667ه/1130 - 1269م) ودولة الأيوبيين في مصر واجزاء من الشام (564ه - القرن 9ه/1169م - 1260م) ودولة المرينين والوطاسيين في المغرب (592 - 956ه/1196 - 1549م), والحفصيين في تونس (625 - 982ه/1228 - 1574م), فدولة المماليك في مصر والشام 1250 - 1517 التي خلفتها جميعا الدولة العثمانية 1517 - 1924م التي لفظت انفاسها الاخيرة مع نهاية الحرب الكونية الاولى. ... ودار الزمن دورته, ويالها من دورة. ... وبعد ذلك الانسان عن عقيدته ما شاء الله ان يبعد بفعل من تلك (النفس الأمارة بالسوء) وكانت النتيجة تساقط تلك الانجازات من الذاكرة المسلمة كتساقط اوراق اشجار فصل الخريف. ... وتتابعت مسيرة الأجيال الواحدة تلو الاخرى. ... وفي كل جيل تسقط من الذاكرة انجازات من تلك الانجازات الخالدة حتى وصل الدور على جيلنا الذي وصل به الحال والمال الى انه اصبح يلازم بين فريضة الهية كفريضة الصوم وبين سلوكيات هي ابعد ماتكون عن (حكمة الصوم) ولن ازيد, ناسيا, او متناسيا - لا فرق - ان لهذا الشهر الكريم في الذاكرة المسلمة صفحات تعبق منها رائحة ايمان الانسان المسلم بدوره في الحياة انطلاقا من عالمية رسالته. وللحديث بقية, فالى ان نلتقي تقبل الله من الجميع صيامهم وقيامهم. وعلى الحب نلتقي.