تحيط بنا المباني من كل جانب، نعيش ضمنها، ونمشي من حولها، وننظر اليها في كل الاوقات وكل الظروف فهي التعبير الاكثر قوة ووضوحا عن المدينة والتجمعات الحضرية. ولكل مبنى شعوره الخاص الذي يحس به المستخدم نتيجة لشكل المبنى وتصميمه. فيتولد نوع من التفاعل بين المبنى والمستخدم يؤدي الى تأسيس العلاقة الدائمة بينهما. تكون علاقتنا مع بعض المباني ايجابية تتصف بالارتياح او البهجة او الفرح او الطمأنينة. يمكن ان نسمي مثل هذه المباني مبان خيرة. بينما هناك مبان اخرى تكون علاقتنا بها سلبية نتيجة للمشاعر التي تنتابها عندما نكون فيها او حولها. فقد نحس معها بالخوف او الرهبة او الكابة، مثل هذه المباني تدفعنا لان نسميها مبان شريرة. الوجود حول مبان شريرة كالوجود حول اناس شريرين، لابد من ان يصيبنا منها ضرر ما. قد يكون هذا الضرر معنويا وقد يكون ماديا، ولكن ما يجب الانتباه اليه هو ان هذا الضرر مستمر ما استمر المبنى. من هنا تظهر خطورة اي ضرر ينجم عن المباني. فنحن نعيش فيها سنين طويلة لا نغيرها فهي مكان سكننا او مكان عملنا، وكثير منا يسكن العمر كله في بيت واحد ويعمل في المكتب ذاته. فاذا تذكرنا ان نقاط الماء المتلاحقة كفيلة بان تحفر الصخر، كان بامكاننا ان نتفهم التأثير السلبي الذي قد ينتج عن اي ضرر من المباني مهما كان هذا الضرر ضئيلا في ظاهره الآني. مثال ذلك الضجيج الخفيف الذي نسمعه طوال النهار ولكننا مع انشغالنا في امورنا اليومية، الا ان تأثيره السلبي على اعصابنا ثابت علميا. ما الذي يجعل المبنى شريرا، بمعنى اخر ما الاضرار التي قد نعاني منها بسبب المباني كي نعتبرها شريرة؟ هناك عدد كبير من الاضرار التي يصعب حصرها ولكن يمكن ذكر بعض منها هنا. واحد من المباني الشريرة هو الذي ننفر منه بسبب شكله، فالمبنى القبيح، وما اكثر المباني القبيحة، سبب قوي لعدم الارتياح. ذلك لان اعيننا تعشق الجمال وتبحث عنه في كل مكان. لذلك لا يوجد من لا يحب الطبيعة، فبعض الناس يحب الجبال وبعضهم يحب البحر او الصحراء او الغابات، ولكن يجمعهم حب الطبيعة لجمالها. عندما نرى مبنى قبيحا تتأذى اعيننا فتتأذى انفسنا ونشعر بعدم ارتياح لا نستطيع معرفة سببه. هذا الشعور السلبي ضار لمشاعرنا وانفسنا ويزداد ضرره مع مرور الوقت وتكرار رؤيتنا للقبح. ما الذي يجعل المبنى قبيحا؟ ربما لونه وربما تفصيلاته او نسبة او حجمه، وربما طريقة وضعه في موقعه او كل هذه الامور مجتمعة. من المباني الشريرة ايضا ذلك يخيفنا شكله.. فالمبنى شديد الارتفاع او المبنى ذو المواد القاسية بلونها او ملمسها او المبنى الذي تظهر مداخله غير مرحبة او ذلك الذي تكثر فيه الاسطح المصمتة يولد مشاعر خوف او رهبة تدفع الناظر للنفور والابتعاد. من المظاهر التي تجعل المبنى مخيفا ايضا وجود ادراج عالية وعريضة تفصل المبنى عن المارين بقربه، او التفاف اسوار عالية حوله مما يجعله غامضا ومجهولا. استخدمت قدرة المباني على السيطرة والارهاب على مدى العصور وذلك لاقناع الاشخاص العاديين بعظمة او قوة او سطوة المالك من خلال الصورة التي تعكسها مبانيه. لذلك كانت القصور والمباني الحكومية والمعابد مثلا ضخمة ومهيبة. مع ما قد تتمتع به مثل هذه المباني من جمال فني الا انها تبقى بعيدة عن الناظر تبعث في نفسه مشاعر الانكسار او الضعف. هناك مبان قد لا تكون مخيفة في شكلها العام الا انها بسبب طبيعة تصميمها تسمح بالقيام بفعاليات مخيفة او توحي بمثل هذه الفعاليات. فالمباني ذات المداخل المعتمة او المنعزلة مثلا توحي دوما بالخوف لروادها. اذ ان الانسان بطبيعته يهاب العزلة والظلام، لذلك ترى سكان مثل هذه المباني يعانون كثيرا من خوفهم بمفردهم. يقال الكلام ذاته بالنسبة للمباني ذات الاقبية المعتمة او الابهاء الضيقة التي لا تبدو واضحة الابعاد والشكل او الادراج الضيقة المظلمة والتي تنتهي بباب مفتوح يؤدي الى السطح. وكذلك يخاف الناس من الابنية التي تحيط بها مساحات وساعة من الحدائق المظلمة ليلا او التي لا يعتنى بها. توحي كل هذه المناطق للطفل خاصة بوجود شخص او شيء ما مختبئ ينتظر فرصة سانحة للانقضاض عليه. واذا فكر كل واحد منا ببناء مدرسته القديمة او سكنه او سكن صديق قديم له لابد ان يتذكر انه قد اصيب بالخوف يوما ما عندما كان يمر بمدخل المبنى او صعد درجة مثلا. هذه المباني هي مبان شريرة ايضا. مبنى شرير اخر هو الذي لا يشجع ساكنيه على التعارف وانما يضعهم في عزلة دائمة لا يعرف الجار معها جاره ولا يأنس ساكن لمن حوله. تتصف اكثر المباني المرتفعة بهذه الصفة، فهي تضم عشرات الشقق السكنية موزعة على عدد كبير من الطوابق. تعتمد حركة السكان صعودا وهبوطا على المصاعد فلا يلتقون مع احد الا فيما ندر. يقفون في المصعد ناظرين اما الى الارض او السقف لا يزيدون في القول عن سلام سريع يكاد لا يسمع. ومع خروجهم من المصعد يتجهون مسرعين الى سياراتهم فتضيع فرص التعارف والاستئناس. يزيد من سوء الصورة ان كثيرا من هذه المباني يفتقر لساحة او حديقة خاصة به يمكن للسكان اطفالا او كبارا ان يلتقو ويتعارفوا. عندما يكون المبنى مخيفا فعلا او يوحي بالخوف وعندما يكون ايضا مشجعا على العزلة، ينمو عند مستخدميه شعور باللامبالاة تجاهه وربما الكراهية والعدوانية. عندها تظهر اعمال الشغب ضده وضد ساكنيه، فيكثر الزجاج المكسور في نوافذ ادراجه، والكتابات والرسومات البذيئة على جدرانه، والشروخ والكسور في جميع انحناءاته. فتسوء حال المبنى ويتراجع مظهره ليبدو كئيبا ومنفرا. هذا نوع من انواع المباني الشريرة ايضا لما يوحي به من انحطاط وتدهور ليس فقط في حالة المبنى وانما حال ساكنيه ايضا. على صعيد اخر هناك بعض المباني التي تبدو جميلة وجذابه وربما مريحة ايضا فننجذب اليها ويذيع صيتها وتصبح معلما من معالم المدينة الى ان ننتبه ان وراء هذا الشكل الجذاب يختبئ شر كبير لا يمكن الانتباه اليه الا مع مرور الزمن. من هذه المباني تلك التي يضطر اصحابها لصرف اموال طائلة للحفاظ عليها صالحة للاستخدام، او ان تكون الخدمات في المبنى ناقصة او غير كافية. من المفهوم انه لا يوجد مبنى لا يحتاج الى كلفة كبيرة للقيام باعمال الصيانة والتشغيل، الا ان المشكلة تبدأ عندما تزيد هذه الكلفة عن الحد المعقول فيصبح تشغل المبنى مكلفا لدرجة كبيرة من غير طائل. مثال ذلك ان تكون مواد العزل في المبنى من نوع ردئ فتزداد كلفة التدفئة او التكييف بشكل غير مقبول. ومن الامثلة على نقص الخدمات ان تكون التمديدات الصحية من المبنى اصغر من ان تتحمل حجم الاستخدام المتوقع منها فيعاني السكان من مشاكل في تصريف المياه المالحة. ينطبق الشيء نفسه على احتياج السكان للماء، فاذا كانت مضخات الماء ضعيفة او التمديدات غير كافية تصبح الحياة في المبنى صعبة ومربكة. من الممكن ايضا ان يكون المبنى جذابا وفي الوقت نفسه شريرا ان كان لا يراعي النواحي البيئية من حوله. والامثلة على ذلك كثيرة، فمثلا تساعد المباني ذات الواجهات الزجاجية الكبيرة او الاسطح الملساء العاكسة على زيادة الاثر السلبي لاشعة الشمس في المحيط المجاور للمبنى من خلال عكسها للاشعة مما يؤدي لزيادة دردة الحرارة في محيط المبنى، الامر الذي يجعل من الفراغات المحيطة امكنة غير مناسبة للاستخدام. بعض المباني يقوم على انقاض مئات الاشجار التي تقطع لكي يأخذ مكانها. وبعض المباني، وما يلحق بها من مواقف وممرات وطرقات، يجعل الارض كتيمة فلا تمتص مياه الامطار فتسيل الى ان تضيع، ونخسر ماء كان من الممكن الاستفادة منه للسقاية او الشرب. وكثير من المباني يقوم تصميه على قواعد جمالية او انشائية فقط مع اهمال النواحي الاقتصادية في الاستخدام. فمثلا تحتاج المباني الزجاجية لاموال طائلة للتكييف والتبريد، الامر الذي يعني صرف مبالغ زائدة عن الاحتياج الحقيقي لو اخذ التصميم المبنى بعين الاعتبار قضايا ترشيد الطاقة. يمكن ان يكون المبنى شريرا اذن من نواح كثيرة، فقد يكون شريرا من الناحية الشكلية عندما يكون بشعا او مخيفا، وقد يكون شريرا من الناحية النفسية عندما يخيفنا ان نمشي ضمنه او ان نعيش فيه. وقد يكون المبنى شريرا من الناحية الاجتماعية عندما يضع ساكنيه في عزلة وغربة ويكون المبنى شريرا عندما يساعد على اعمال الشغب والتخريب. ويكون شريرا ايضا من الناحية الاقتصادية عندما تكون مصاريف صيانته وتشغيله اكثر من المألوف، واخيرا قد يكون المبنى شريرا من الناحية البيئية عندما يسيء المبنى للموقع او يستنزف طاقات ذلك الموقع بشكل مبالغ فيه. السؤال التالي هو من الذي يجعل المبنى شريرا؟ الحقيقة ان كل من له علاقة بالمبنى يمكن ان يساهم في جعل المبنى شريرا، هذا يعني ان لكل من المالك والمصمم والمستخدم دورا في هذه العملية. فالمالك يوجه، من خلال طلباته وفلسفته في الحياة وطموحاته الشخصية، العملية التصميمية بالكامل. فهو الذي يفرض برنامج المشروع الذي يحدد ارتفاع المبنى وحجمه، وهو الذي كثيرا ما يفرض نمط الشكل المعماري من خلال ما يمليه على المعمار من افكار واماني يضطر المصمم لتلبيتها. وهو ايضا الذي يحدد ميزانية المشروع وبالتالي يتحكم بدرجة اهتمام المصمم وحرصه على تأمين بيئة جيدة وصحية. مع ازدياد ثقافة المالك واستيعابه لقدرة مبناه على التحكم بمشاعره ونفسية وراحة وصحة المستخدمين يزداد اهتمامه واصراره على الحصول على مبنى يحقق الخير والمنفعة على كافة الاصعدة، فالمالك المثقف سيقبل ان يتكلف مبالغ اضافية لتأمين نظام مكافحة الحرائق مثلا، ويستوعب ايضا اهمية الاعتناء بتصميم المداخل ولو كان ذلك يعني زيادة في الكلفة لانه يعلم ان التصميم المعتني به سيؤمن راحة نفسية وشعورا بالامان وبالتالي حماية من العبث. اما المصمم فالمتوقع منه ان يقدم افضل الحلول ضمن الامكانات المتاحة، وهذا يعني ان يأخذ بعين الاعتبار صناعة المبنى (صحي وبيئي وانساني). عليه تقع مسؤولية تثقيف المالك الى خطر المباني الشريرة واهمية ابعاد كل الصفات التي قد تجعل من المبنى مسيئا لمحيطه وسكانه. من جهة اخرى بامكان المصمم اختيار المواد والالوان المريحة، وكذلك يمكنه ان يحسن تصميم الفراغات العامة والخاصة في مبناه كي تكون مرحبة وامينة واقتصادية. من هذا المنطلق لم يعد كافيا ان يتعلم المعمار اسس التصميم المعماري فقط، وانما صار من الضروري ان يكون مطلعا على الدراسات النفسية والاجتماعية وبشكل خاص تلك التي لها علاقة بشؤون العمران. وقد ظهرت في عصرنا الحالي علوم جديدة في هذا المجال تفرعت عن علوم ام كعلم الاجتماع العمراني مثلا. تعني هذه العلوم بدراسة تأثير العمران في سلوك المستخدمين واساليب تحسين العلاقة بين العمران والمستخدم لصالح الاثنين. وقد ظهرت مثل هذه العلوم نتيجة الاحتياج الحقيقي لها كما احس به المهتمون بشئون العمران. لم يكن هذا الاحتياج واضحا في البيئات القديمة لانها بنيت مع مرور الزمن من قبل سكانها ومستجيبة لمتطلباتهم. اما في بيئاتنا الحالية حيث نبني مئات المباني في ان معا لاشخاص لا نعرفهم، فالحاجة لفهم طباعهم وسلوكهم واحتياجاتهم ومشاكلهم باتت اساسية في عملية العمران من طرف اخر صارت الامور البيئية اكثر الحاحا مع التقدم العلمي واستخدام المواد الحديثة وتقنيات البناء المتطورة. الامر الذي يحتم على المعمار ايضا استيعابها وتفهم ايجابياتها وسلبياتها للوصول الى بيئة متوازنة بيئيا. اخيرا يأتي دور المستخدم نفسه الذي يجب ان يكون على درجة من الوعي والنضوج لكي يمكنه ان يتفاعل مع المباني بشكل ايجابي فيستفيد من حسنات المبنى ويحافظ عليها من جهة، ويساهم في عملية معالجة سيئات ذلك المبنى من جهة ثانية. يتم له ذلك ان كان اولا يشعر بالانتماء للمبنى، وثانيا ان كان يملك مساحة من المشاركة في اتخاذ قرارا يتعلق بالمبنى، وثالثا ان كان فعلا يرى تطورات ايجابية لمبناه نتيجة للقرارات المتفق علياه. وقد تبنى كثير من المجتمعات نظام لجان المباني الذي يحقق النقاط الثلاثة السابقة الذكر. اذ يتركز هدف لجنة اي مبنى في متابعة صيانته وحل مشاكله بكافة انواعها، وفي كثير من الاحيان يتوسع هدف اللجنة ليغطي بالاضافة الى مشاكل المبنى الملموسة، مشاكل سكانه الحياتية. حيث يساهم سكان المبنى من خلال اللجنة في حل مشاكل السكان المالية او الاجتماعية مثلا. من خلال هذا الدور المهم للجنة ينشأ شعور بالانتماء للمكان عن القاطنين، الامر الذي يعتبر المفتاح الحقيقي لحل بقية المشاكل. لم يعد من الممكن النظر الى اي مبنى في عصرنا الحاضر بمعزل عن ابعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. فلكل من هذه ابعاد تأثيرات وتداعيات قادرة على رفع المبنى الى مصاف المباني الخيرة او رميه بين المباني الشريرة. وتقع علينا اولا واخيرا نحن كمالكين ومصممين ومستخدمين مسؤولية جعل المباني خيرة، فالمبنى تجسيد مادي لرغباتنا واحتياجاتنا وتصوراتنا وطموحاتنا نحن، اما بمعزل عنا فهو ليس سوى مواد مختلفة متراكمة فوق بعضها البعض لا تملك نفعا ولا ضرا. ارتفاع المبنى وقساوة ملمسه يعطي انطباعا غير مريح