أذكر من دروس التربية الدينية في المدرسة الابتدائية قصة بسيطة الحبكة ولكنها عظيمة المعنى, مفادها ان رجلا توجه الى جاره حاملا معه مجموعة من ألوان طلاء الجدران ليسأله ان يختار منها لونا للجدران الخارجية لبيت الرجل. استغرب الجار سؤال جاره هذا, فأوضح له الرجل انه يعتقد ان داخل بيته ملكه ويتصرف فيه كما يشاء. اما خارج البيت فللجارحق فيه لانه يراه في مجيئه ومرواحه أكثر مما يراه صاحب البيت, وذلك فان له ان يتمتع بمنظر جميل. بمعنى آخر يقول هذا الرجل ان للجوار والمارة حقا على صاحب أي عقار ان يقدم عقاره بشكل مريح للناظرين. وفي الحقيقة فان هذه الفكرة البسيطة تمس مبدأ عمرانيا هاما يتعلق بتشكيل البعد الثالث في الفراغات العمرانية. إذ لا تكتمل أية نظرية عمرانية من دون ان تأخذ بعين الاعتبار أسلوب تشكيل هذا البعد والمتمثل غالبا في الجدران الخارجية للكتل المعمارية. اذ تلعب الجدران الخارجية هذه دورا مهما في تحديد نوع العلاقات الوظيفية والبصرية والتشكيلية بين الفراغ والمباني المحيطة به. فمن الناحية الوظيفية تحدد الفتحات في الجدران (أبواب ونوافذ) درجة العلاقة الحركية بين داخل المبنى والفراغ الخارجي, فأما ان تسهل الاتصال وتشجعه من خلال فتحات كبيرة ومباشرة, وإما ان تجعل العلاقة بين الداخل والخارج رسمية ومحدودة من خلال فتحات ضيقة ومرتفعة عن منسوب الفراغ الخارجي. وكذلك تقوم هذه الفتحات بدور مماثل بالنسبة للعلاقة البصرية بين الداخل والخارج فاما انها تسمح بالرؤية بشكل سهل من احد الطرفين الى الآخر وإما انها تحجب الرؤية وتفصل الداخل عن الخارج. اما من الناحية التشكيلية فيمكن للجدران ان تعكس من خلال تصميمها الخطوط التشكيلية للفراغ او المباني او كلاهما معا, وبالتالي تربط فنيا بين الإثنين. وهكذا تظهر الجدران الخارجية للمباني وكأن لها طاقة عجيبة في التحكم في علاقة الفراغ المبني مع الفراغ المفتوح إن بالربط او الفصل, وذلك لكونها همزة الوصل بينهما. من هذا المنطلق تظهر أهمية الاعتناء بتصميم أسوار البيوت لكونها العنصر المشكل للبعد الثالث في جميع الشوارع السكنية. فهي تحدد عرض الشارع وتعطيه الشعور بالانغلاق من الجانبين وبالتالي تقوم بتشكيله فراغيا. فاذا نظرنا الى هذه الأسوار من النواحي الثلاث السابقة الذكر: الوظيفية والبصرية والتشكيلية نرى انها من الناحية الوظيفية تقوم بدورها بشكل جيد فهي تفصل بين داخل البيت وخارجه وتؤمن مداخل من نقاط معينة للأشخاص والسيارات. ولكون هذه الأسوار عادة جدرانا صماء فهي تؤدي الدور البصري المطلوب منها أيضا وذلك بحجز الرؤية تماما بين الداخل والخارج. تبقى اذن الناحية التشكيلية والتي تعنينا هنا بشكل خاص. وذلك لان هذه الجدران هي التي تعطي الطريق شكله وهويته من خلال موادها وألوانها وارتفاعاتها وتصميمها التفصيلي والعناصر الملحقة بها كالنباتات والإضاءة والبوابات. وكلما زادت العناية بشكل الأسوار تحسن شكل الطريق وارتفعت قيمته الجمالية. وهنا تظهر فطنة معمار البيئة اذا استطاع ان يجعل من هذه الأسوار مجموعة متلاحقة من القطع النحتية الجذابة. ولا يتم ذلك إلا اذا اقتنع صاحب البيت بأهمية تصميم السور لانه يمثل الواجهة الفعلية للبيت. وبالتالي يتوقع من كل مالك ان يخصص من ميزانية مشروع البيت الخاص به حصة مناسبة لتصميم وبناء السور وان يوكل تصميم السور لمعمار بيئة متفهم لدور السور التشكيلي والجمالي. واذا توافرت هذه القناعة فانه من الممكن ان يتفهم المالك المثقف ما يقدمه له مصممه من اقتراحات تفيد التصميم على مستوى البيت والشارع ككل. في هذه الحالة يحرص معمار البيئة على تحقيق النقاط التالية: اولا ان يكون ارتفاع الجدار كافيا لتأمين العزل البصري بحيث لا يضطر المالك الى زيادة الارتفاع في وقت لاحق مستخدما مواد أقل قيمة اوجمالا. ثانيا: ان يختار مادة بناء السور ولونها بحيث تقوم بدورين معا: ان تتناسب مع مواد بناء البيت ليكون السور امتدادا طبيعيا للبيت يعكس هويته, وفي الوقت نفسه ان يكون السور جزءا من التكوين العام للشارع من خلال تجانس لونه ومادته مع المواد والألوان المستخدمة في الحي. ثالثا: ان يتم تصميم السور كقطعة نحتية جدارية لا ان يكون مجرد جدار اصم أجرد مرتفع طويل. يعني هذا ان يعالج السور بحيث يخفف من تأثيره الشكلي الموحش عندما يكون مرتفعا وأصما وممتدا كأنه لا ينتهي. يتم ذلك باغنائه ببعض التفصيلات المعمارية من تراجعات او تراكبات او تنويع في الارتفاعات والمواد والألوان او غير ذلك. رابعا: ان تراعى امكانية استخدام العناصر النباتية في تصميم السور فتكون الاحواض النباتية جزءا من تكوين الجدار لتأتي بنوع من أنواع التغيير في مواد بناء السور وألوانه وتشكيله الفني, بالاضافة الى انه لا يخفى ما للنباتات من أثر فريد في إعطاء الحياة والحيوية والجمال لأي مكان توجد فيه. خامسا: ان تدرس اضاءة السور ليلا اذ ان للاضاءة إمكانيات هائلة في تقديم صورة مختلفة وجميلة لأية منشأة فتجعلها تبدو كأنها واحدة غير التي نراها في النهار. لقد غدت الإضاءة مجالا واسعا ومتقدما في التصاميم الخارجية ولنا ان نستفيد من هذا المجال في تحسين شوارعنا. سادسا: ان تصمم بوابات السور كبؤرة جمالية ضمن تصميمه الكلي فتتركز عنده الأبصار وتنتقل منه الى السور ثم الى الشارع او تقفز منه الى البيت الواقع خلفه, وبالتالي تتمتع العين بالتنقل بين تفصيلات السور التي تتكامل مع الشارع من خلال العناصر النباتية والإضاءة والمواد والألوان, الى تفصيلات البوابات التي تهيىء بتصميمها العين للانتقال الى المبنى الداخلي. واخيرا ان يراعى في التصميم البساطة والأناقة والاتزان بحيث يتحقق الهدف من السور وظيفيا وجماليا من غير مبالغة. هذه بعض أهم النقاط التي يجب مراعاتها عند تصميم سور أي بيت قد نتفق عليها وقد نختلف على بعضها. ولكن المهم ان يقتنع صاحب كل أرض ان للشارع وأهله وللمدينة وسكانها حقا عليه ان يساهم معهم في تشكيل الصورة البصرية للشارع والمدينة فيأخذ تصميم سور بيته بمحمل الجد ويجعله نقطة أساس في التكوين العام للبيت ومحيطه. استاذ مشارك قسم عمارة البيئة