سجلوا على هذه الإفادة، وادعوا الله أن تكذب الأيام كل كلمة فيها: إغلاق مركز زايد الثقافي بضغط أمريكي، هو علامة فارقة في أجواء المنطقة، من حيث أنه يبعث برسالة تحذير وإنذار لكل منبر أو مثقف عربي، تقول بصريح العبارة ان الديمقراطية الموعودة بعد احتلال العراق لها حدود، ولها سوط وأنياب أيضاً. (1) في الثاني عشر من شهر أغسطس الماضي بثت وكالة (اسوشيتدبرس) خبرا ذكرت فيه ما نصه: صرح مسئول في دولة الإمارات العربية بأنهم بصدد إغلاق مركز فكرى يتهمه النقاد الغربيون بالترويج لمعاداة السامية والولاياتالمتحدة ... وقال ان الإمارات اعربت بشكل خاص عن قلقها في الشهر الماضي بشأن التصريحات المنشورة عن أنشطة المركز. في اليوم التالي مباشرة، في 19/8، كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير الشرق الأوسط تعليقا على مدى يومين شرح فيه حيثيات إغلاق المركز الذي وصفه بأنه صار يمثل مشكلة سياسية، بسبب السمعة التي شاعت عن تطرف طروحاته، واستضافته مفكرين متطرفين والترويج لهم - وأضاف انه بسبب تلك السمعة السيئة وقع المركز في شباك الباحثين عن أخطاء عربية، مثل مؤسسة ميمري المحسوبة على الفكر الإسرائيلي، فاصطادت بسهولة المركز، متلبسا بالتوجهات المتطرفة، وأجهزت على سمعته. وهذه المعلومة الأخيرة كررتها برقية لوكالة رويترز في 26/8 قالت فيها أن عددا من الجماعات اليهودية في الولاياتالمتحدة كانت قد اتهمت المركز بالعداء للسامية. أخيرا، في 27/8، أعلن رسميا في أبو ظبي أنه تم إغلاق المركز ، الذي كان تابعا للجامعة العربية منذ إنشائه في عام 1999، وتولت دولة الإمارات رعايته وتمويله. ومن ثم أسدل الستار على قصته، حتى إشعار آخر على الأقل - وفي التقرير الذي بثته الوكالة الفرنسية بمناسبة إعلان الإغلاق، نقلت على لسان مسئول في المركز أنه تعرض لحملة من معهد بحوث الشرق الأوسط والمؤسسات اليهودية في العالم. نحن إذن أمام خبر صحيح، وبين أيدينا أسباب معلنة للإغلاق، وخيط مهم يشير إلى الجهة التي قامت بدور المحرض على عملية الاغتيال. وتوفر تلك العناصر يوافر لنا أرضية تسمح لنا أن نقلب الأمر ونحن مطمئنون إلى الوضوح النسبي للأركان الأساسية في القضية، الفعل والفاعل والمحرض والمفعول به. أقدم لتلك المحاولة بعدة ملاحظات هي : اننا نتحدث عن مركز ثقافي ظل خلال عمره القصير (3 سنوات) يضج بالحركة والنشاط، الأمر الذي أكسبه شهرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتميز بأنه منفتح بشكل رصين على مختلف الاتجاهات والآراء. الأمر الذي كرس صدقيته واستقلاله. ولم يكن نشاطه محصورا في المحاضرات التي ذاع صيتها فحسب، ولكنه كان يتعاون مع أكثر من 120 من الباحثين الجادين العرب والأجانب ، ثم أنه كان ينظم بين الحين والآخر ندوات مغلقة لمناقشة القضايا الحيوية التي تهم العالم العربي. ان سياسة الدولة الراعية للمركز معروفة بالاتزان والاعتدال، وتلك من سمات المجتمع الإماراتي التي كفلت له الاستقرار والازدهار، الأمر الذي يعني أن المناخ العام الذي عمل فيه المركز كان أبعد ما يكون عن التطرف، ولم يكن بوسع المركز - حتى لو أراد - أن يشذ عن تلك الأجواء، وإنما كانت ممارساته تعبيرا عنها وتجسيدا لها. ان إغلاق مركز ثقافي محترم على ذلك النحو، يعد إجراء غير مسبوق في العالم العربي،. وحين يتم ذلك الإغلاق استجابة لضغوط أمريكية، فإن ذلك يستدعي أبعادا أخرى للمشهد، ويضيف على فرادته طابعا خاصا، يثير العديد من التساؤلات والمخاوف، التي سنأتي على ذكرها بعد قليل. ان الدهشة تعتري المرء وهو يفاجأ بالقرار الذي اتخذ بصدد المركز، لكن تلك الدهشة تتضاعف حين يلاحظ المرء أنه استقبل بصمت مطبق في العواصم العربية. إذ باستثناء بيان تضامن مع المركز ومناشدة للسلطات الإماراتية لكي تراجع قرار إغلاقه، أصدره بعض المثقفين العرب ، فإن المؤسسات والهيئات الثقافية وأجهزة الإعلام العربية تجاهلت الموضوع . علما بأن ما حدث مع المركز يمكن أن يتكرر في أي عاصمة أخرى، ويؤكل الجميع "كما أكل الثور الأبيض" بل انني حين كتبت تعليقا على الموضوع في الاتجاه الذي عبر عنه بيان المثقفين، فإن إحدى الصحف العربية التي اعتدت أن أنشر فيها مقالا أسبوعيا، حجبت التعليق وامتنعت عن نشره ! (2) الغارة على المركز لم تبدأ في أبو ظبي، ولكنها خرجت من واشنطون. والمعلومة التي سبقت الإشارة إليها عن دور معهد (ميمري) في قيادة الحملة المضادة لمركز زايد صحيحة تماما. ذلك أن المعهد كان قد أصدر في العام الماضي تقريرا عن المركز اتهمه فيه بمعاداة الولاياتالمتحدة والغرب ، وبالعداء للسامية. وهذا العام (في 11/7 الماضي) أصدر المعهد تقريرا ثانيا كرر فيه الاتهامات وواصل حملته الشرسة ضده. وقد اكتسبت الحملة بعدا جديدا في ظل تنامي دور المتطرفين في الإدارة الأمريكية، الأمر الذي كان له أثره في الضغوط الأمريكية على دولة الإمارات. وقبل أن نحاول تقييم هذه الحملة، من المفيد أن نتعرف أكثر على هوية المعهد الذي نظمها، إذ من شأن ذلك أن يفض لغز اهتمامه وهو في واشنطون بمحاضرات ومطبوعات تصدر في أبو ظبي في الطرف الأخر من الدنيا. كلمة (ميمري) هي اختزال للأحرف الأولى من الاسم الحقيقي الذي هو (معهد الشرق الأوسط للبحوث والإعلام)، الذي أنشىء في عام 1998، أي قبل عام واحد من تأسيس مركز زايد. ومنذ ظهر إلى الوجود عرف بعلاقاته الوثيقة مع إسرائيل. ذلك أن مؤسسه ومديره، والمالك المسجل لموقعه على شبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت) ، شخص إسرائيلي هو إيحال كارمون، الذي كان في الأصل كولونيل أمضى 22 عاما في المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وعمل في السنوات الأخيرة مستشارا لمكافحة الإرهاب مع اثنين من رؤساء الحكومات الإسرائيلية، هما اسحاق شامير وبنيامين نتانياهو. ليس ذلك فحسب، وإنما باستعراض أسماء العاملين بالمعهد تبين أن ثلاثة منهم كانوا يعملون مع المخابرات الإسرائيلية، وهناك ثلاثة آخرون أحدهم عمل بالقيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، وآخر ذو خلفية أكاديمية، والثالث كوميدى سابق. المهمة الرئيسية للمعهد هي تتبع ما تنشره الصحف والمطبوعات العربية بوجه أخص، وترجمته وتوزيعه على أوسع دائرة ممكنة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في الولاياتالمتحدة وأوروبا. وهي عملية لقيت إقبالا شديدا بعد أحداث 11 سبتمبر، وما استصحبته من مضاعفة الاهتمام والفضول الغربيين بكل ما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي. لم تتسم هذه المهمة بالبراءة يوما ما، فقد وصف إبراهيم هوبر المتحدث باسم مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير) وظيفة المعهد في صحيفة (واشنطون تايمز)"، بقوله أن دوره ينحصر في البحث عن أسوأ العبارات المقتبسة عن العالم العربي والإسلامي، ونشرها على أوسع نطاق ممكن. هذا الرأي تضامن معه واستشهد به أحد كتاب (الجارديان) البريطانية (برايان ويتيكر - 12/8/2002)، الذي كتب يقول أنه يتلقى من المعهد عبر البريد الإلكتروني، وبالمجان، ترجمات عالية المستوى لمقالات صادرة في الصحف العربية، لكنه عبر عن توجسه وعدم ارتياحه لطبيعة تلك الترجمات، التي هي أما أن تعكس صفات سيئة للعرب، أو أنها تقوم بتعزيز الأولويات السياسية لإسرائيل". ومن الملاحظات الطريفة التي أوردها كاتب المقال قوله أن المعهد يقدم نفسه باعتباره مؤسسة محايدة تشجع الاعتدال، وتسعى لتسليط الأضواء على النماذج الصارخة للتعصب والتطرف. ولكنه تشكك في صدق المقولة بعدما اكتشف أن الترجمات التي يعممها كلها تعكس نماذج لمظاهر التطرف في الجانب العربي، في حين أنه لم يتلق مرة واحدة ترجمات من ذلك القبيل عن الصحافة العبرية (وهي بلا حصر كما يعلم الجميع). (3) لن نذهب بعيدا أو نتجنى إذا قلنا ان الزوبعة التي ثارت حول مركز زايد خرجت أصلا من معهد مشبوه أمريكي صهيوني، معني بأمرين جوهرين في العالم العربي، هما الاصطياد والوقيعة. ولا ينسى في هذا الصدد أن معهد (ميمرى) هذا هو الذي تصيد للدكتور غازي القصيبى قصيدته التي نشرها حين كان سفيرا للسعودية في لندن وحيا فيها الشهيدة الفلسطينية وفاء أدريس. إذ قام بترجمتها واعتبرها تشجيعا على الإرهاب والعنف وتحريضا للانتحاريين لكي يواصلوا قتل المدنيين الإسرائيليين، ومن ثم فقد أقام الدنيا وأقعدها ضد الدكتور القصيبي، وكان له دوره في تشويه العمل الذي قام به، وتأليب كثيرين ضده. نفس الأسلوب اتبع مع مركز زايد، الذي نسبت إليه نفس الاتهامات الفضفاضة التي أصبحت تنسب لكل من يجرؤ على انتقاد السياسة الإسرائيلية، أو ينطلق بكلمة حق إزاء سياسة الإدارة الأمريكية. رسائل التشويه المسمومة يبعث بها المعهد بصورة منتظمة إلى 200 ألف عنوان إلكتروني وتزود بها وسائل الإعلام بصفة مستمرة. ونظرا لما نعرفه من تلاق للهوى بين الطرفين بسبب نفوذ العناصر الصهيونية في تلك المؤسسات، فإنها وجدت فيما يبعثه المعهد زادا إضافيا لتشديد حملات التشويه ضد العرب والمسلمين، التي تشارك فيها بحماس مفرط مختلف المؤسسات اليهودية في الولاياتالمتحدة. وقد بلغ من قوة تلك الحملات وتأثيرها على الناس أنها أوصلت رسالة التشويه إلى قطاعات واسعة من الأمريكيين، لدرجة أن الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات حين تبرع بمبلغ 15 ألف دولار لسد العجز المالي في ميزانية إحدى المدارس الابتدائية في ولاية كاليفورنيا، (استجابة لطلب جدة أحد التلاميذ كانت في زيارة للإمارات)، فإن أولياء الأمور ترددوا في قبول المنحة التي كان من شأنها أن تبقي على مدرسي المرحلة الثالثة الذين تم الاستغناء عن خدماتهم. وكان السبب الرئيسي في هذا التردد هو ارتباط اسم الشيخ زايد بالمركز الذي أشيع عنه أنه معاد للسامية! (4) في إحدى الندوات التي شهدتها في لندن لمناقشة الأوضاع في العالم العربي بعد 11 سبتمبر، - كانت بدعوة من وزارة الخارجية البريطانية - أثير موضوع التطرف، وفي محاولة تعريفه، فإن أكاديميا بريطانيا خفيف الظل، قال ان هناك تعريفات كثيرة للتطرف، لكنه من متابعته للمناقشات والممارسات التي جرت حول الموضوع خلص إلى أن التطرف أصبح حقيقة الأمر (كل كلام أو سلوك لا يعجبنا)! هذا بالضبط ما حدث مع مركز زايد، حين قيل على منبره كلام لم يعجب الأمريكيين والصهاينة فلاحقته لعنة التطرف، وأطلقت من حوله الشائعات التي مهدت للانقضاض عليه واغتياله. ذلك أن أكثر ما أخذ على المركز أنه دعا الفرنسي تيري ميسون مؤلف الكتاب الذي شكك في أحداث 11 سبتمبر واعتبرها أكذوبة. وأنه سمح بإلقاء محاضرات انتقدت السياسة الأمريكية والإسرائيلية، والذين تحدثوا في هذه الأمور لم يتجاوز عددهم عشرة أشخاص، من بين عشرات المحاضرين الذين تمت دعوتهم منذ إنشاء المركز. وبالمناسبة فإن الذين مارسوا عملية النقد كان بعضهم أمريكيين، كما أن هناك أمريكيين آخرين دافعوا عن سياسة بلادهم وحاولوا إقناع مستمعيهم بصوابها. إن شئت فقل ان كل جريمة المركز أنه سمح للرأي الآخر بأن يعبر عن نفسه بشكل حذر وفي نطاق محدود وضيق، حتى ان أصحاب ذلك الرأي الآخر لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، لكن ذلك لم يحتمل، ولم يغفر له أنه أتاح تلك الفرجة الصغيرة، فكان هناك إصرار على قمعه وإسكات صوته، وأيضا لكي يكون عبرة للآخرين. والأمر كذلك ، فلم يكن من العسير أن نستنتج أن الإمارات استقبلت الضغوط واحتملتها لبعض الوقت، وإزاء اشتدادها واتساع نطاقها فإنها أرادت أن توقف الحملة، فاختارت ان تغلق المركز عملا بالمثل القائل: الباب الذي يأتيك منه الريح، أغلقه كي تستريح. (5) الاستعلاء الأمريكي لا حدود له فيما يبدو. والضغوط التي مورست لإغلاق مركز زايد الثقافي فريدة في بابها وغير مسبوقة حقاً، حيث لا نعرف ان ثمة مؤسسة ثقافية عربية تعرضت للمصير الذي لقيه، ولكنها صفحة في سجل حافل بالممارسات العبثية المتجاوزة للاعراف التي تشهدها العواصم العربية، في ظل الإدارة الأمريكية الحالية الخاضعة لهيمنة المتطرفين. وهي الممارسات التي ذهبت بعيدا في الفظاظة والفجاجة خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر. نكأ ذلك الجرح ما نشرته أسبوعية (المجلة) اللندنية (عدد 10/8) حيث أعدت ملفا رصد ممارسات السفراء الأمريكيين في خمس دول عربية، وكان محور الملف سؤالا واحدا هو: سفراء هم أم أوصياء؟ وفي الإجابة عن السؤال استعرض مراسلو المجلة شريطا مليئا بالوقائع والشواهد المستفزة. من رسالة السفير الأمريكي في القاهرة التي نشرها الأهرام في 30/9 الماضي وطلب فيها من مسئولي الصحف - بجرأة يحسد عليها - منع نشر المقالات والتحليلات التي تخالف الرواية الأمريكية لأحداث سبتمبر، ومحاولته التدخل في الأعمال التليفزيونية، مثل ما حدث في مسلسل (فارس بلا جواد)، إلى طلب السفير الأمريكي في بيروت إقصاء وزير الإعلام اللبناني غازي العريض من منصبه (استبعد في التعديل الوزاري الأخير)، إلى دعوة السفير الأمريكي في البحرين للحضور في أحد النوادي الاجتماعية بالمنامة أن يقفوا دقيقة حداد على الضحايا الإسرائيليين، أسوة بما فعلوه مع الضحايا الفلسطينيين، وانتهاء بالسفير الأمريكي في صنعاء الذي هاجمته بشدة صحيفة (الميثاق) الناطقة باسم حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، وقالت أنه يتصرف كمندوب سام ، متناسيا أن اليمن بلد مستقل له سيادة، وليس الولاية الثانية والخمسين لأمريكا. لا يخلو المشهد من مفارقة، لأن الولاياتالمتحدة التي تفرض نفسها على الآخرين ولا تتردد في مصادرة أو قمع الآراء المخالفة لها والناقدة للسياسات الإسرائيلية ، هي ذاتها التي تعلن على الملأ أن العالم العربي بعد إسقاط النظام العراقي سترفرف عليه أعلام الحرية، وأن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هو المهمة الأخلاقية لهذا العصر. وقد شاء ربك أن تتزامن الضغوط الأمريكية لغلق مركز زايد مع نشر تفاصيل المشروع الذي أعدته هيئة المعونة الأمريكية لإصدار بعض الصحف العربية وإنشاء محطات تليفزيونية فضائية، حتى تتولى تجميل الوجه الأمريكي والتعبير عن سياسة واشنطون في الشرق الأوسط والعالم الخارجي. أما نكتة الموسم، وأكثر المفارقات سخرية واضحاكا فهي أن ذلك كله - وبعضه إرهاب فكري على الأقل - يتم في إطار الحملة على الإرهاب ! ترى على من سيحل الدور في المرة القادمة ؟!