لا تطال الشاعرة فائض أحاسيسها إلا بلغة عادية، فالكلمات " دائما أقل من الرغبة " كما تؤكد إيمان مرسال في نصها " جدوى صوتي ". ولأنها كذلك لم تتأكد كفاءة الموروث الشعري النسوي بما يكفي للإقرار بإسهامتها الأدبية، وبرأي فاطمة المحسن، لم تنافس الرجال - شعريا - في التاريخ العربي المعاصر، سوى امرأة واحدة هي نازك الملائكة، ولكن قصيدتها لا تصمد في المحاججة الجمالية أمام شعر السياب وصحبه، عكس مباحثها الأدبية التي بكرت بدراسة الظاهرة الشعرية الجديدة، فتفوقت بذلك على أندادها ثقافة وعقلا ديناميكيا، فكل الشاعرات العربيات هن مستعمرات درويشية أو نزارية أو أدونيسية وهكذا. وعلى هذا الإمحاء التام للمنجز الشعري النسوي العربي المعاصر، تتساءل عن سر تخلف المرأة العربية شعريا عن الرجل، فيما يشبه الاستفهام التقريري، المؤكد لحقيقة الوهن الشعري الأنثوي، إن كان لتقادم كبح مشاعرها من تأثير على تحجيم دورها في هذا الميدان، حتى ولو كانت الفرصة سانحة أمامها لتقول ما تشاء. وتذهب إلى احتمالات عطالة تكوينية تسائل بموجبه مخيلة المرأة إن كانت قاصرة بالفعل عن أن تكون بمستوى تمثل النتاج الشعري الذي خلفته أمة تفاخرت بشعرها على بقية الأمم. ويبدو أن التساؤل يأخذ نبرة الإتهام، ليس بالنسبة للشاعرة العربية وحسب، ولكن لكل الحركة الشعرية النسوية، فالقراءة التاريخية تؤكد ذلك القصور التعبيري في النص الشعري الأنثوي، رغم الطابور الطويل من الأسماء، وترده الى أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التغييب القسري للذات، لولا بعض الطفرات والإستثناءات المحتمة بظرفية تاريخية وبتطرفات فردية، فقد كانت تلك الإزاحة، التي تم بموجبها تهريب الذات من النص، هي السبب الأوضح لحقبة طويلة من التردي التعبيري، بمعنى الخوف، أو الامتناع عن ترحيل التجربة العاطفية والخبرات الحسية إلى سياقات النص الشعري. ولكن رغم التعذيب الذي كانت تمارسه الذات الأنثوية على نصها، تبقى بعض آثاره المعنوية والمادية حاضرة في حركته الباطنية، فالحدس بما كانت تريد قوله تلك الذات، حسب مقرؤية فوكو لأثر العبارة المستمر يستند إلى دعامة مادية وليس مجرد محاولة تأويلية صرفة، وهو الأمر الذي يتطلب النظر إلى عبارات النص الشعري الأنثوي في صورتها الجمعية، ليأخذ التحليل العباري فرصته لاستعادة الظاهرة، فميزة هكذا تحليل بتصوره" ليست ايقاظ النصوص من سباتها الراهن، قصد اكتشاف وميض ميلادها، عن طريق فك ألغاز حروفها المكتوبة فيها، بل العكس ملاحقتها خلال سباتها الطويل ". ذا ما يفصح عنه أنين النص الشعري الأنثوي، وتؤكده كل المناهج النقدية، فبالتأكيد، ثمة كائن مأزوم خلف العبارات، تصعب رؤيته دون التماس مع وعيه وأحساسه كذات مبدعة لذلك لنص، وبصورة أدق، تفكيك المعنى الفلسفي لذلك الإبداع ومبرراته الوجودية ككتابة، من خلال تواشج حميمي مع حركة النص في تبرعماته الأولى. ذاك هو الكفيل بالتقدم في فعل القراءة، والتجادل المفتوح مع البؤرة الشعورية التي تولد بموجبها ذلك النص على اعتبار أن النص الشعري الأنثوي هو المكان الأنطولوجي لحركة ذلك الكائن. ولتأويل ذلك النص لا تقويله، يمكن ملاحظة الذات وهي تنسج ضمن سياق لغوي، بالنظر الى كون اللغة هي الأصل التكويني لذلك الوعي، ومن هنا تتأتى الحاجة النقدية الماسة لتأمل أصل النص، بما هو واقع مادي، وبالتحديد لحظة تولده ضمن صيرورة البعد الزمني. واتجادل مع مهادات، أو مخطوطات النص الشعري الأنثوي الأولية، يشي بمسافة وعرة وطويلة قطعتها تلك المنتجات المقهورة لتظهر إلى النور، لدرجة يبدو فيه النص أحيانا، لفرط المحو والمواربة التي تعرض لها بمشرط الذات المنتجة له، أقرب إلى اللغز العصي، حتى على قراءة نفسه بنفسه كما يشترط جاك دريدا، وكأن الذات المنتجة له أرادت إغلاقه ليستعصي، أو ربما يستحيل، على أي ناقد تفتيش ضمير تلك الذات ومطاولة هواجسها، فكل قارئ بالنسبة للشاعرة هو رقيب في المقام الأول. والحوار هنا - أي ضمن النص الشعري الأنثوي - ليس بالمعنى التقصيفي، القائم على آلية محو وكتابة ما بعد حداثية، الذي يمنتج به المبدع نصه ليشخصنه، أو يندس به في التاريخ على طريقة ايهاب حسن، أو ليشده فنيا، ويزيده توترا، بعد أن يجتث منه الفائض البلاغي، والترهلات اللفظية، فهذه مهمة فنية لا يقدر عليها إلا القليل من المبدعين، إنما تم إلغاء حيوية النص بمعنى الإماتة، وإصابة وعيه وأحاريكه الشعورية بمقتل، حين أطل الرقيب،كعازل لوجودية النص، بأذرع أخطبوطية نفسية وإجتماعية وأخلاقية وذاتية ليمنعه من التمدد في رحابة السؤال، فالخوف من التفكير والتعبير، الذي أدمنته المرأة والشاعرة كمنتجة للنص، أدى على الدوام إلى فقدان شهية الحياة، وتمثلها بشكل مشوه إبداعيا. هكذا أفلتت اللحظة التاريخية بكل مقوماتها من كائن يعاد إنتاجه بالنص، أو ربما آثر هذا الكائن المهادن الحفاظ على لحظة تاريخية متخثرة، بوعي جزئي بائت، فالذات الشاعرة هنا لم تخسر التعبير الفني وحسب بل خسرت- حتى حين - حرية الحركة، بتعاميها عن مهمة الكتابة كفعل تحرر ووجود، نتيجة ركونها إلى هشاشة الذات المستدعاة بنص أو عبارات رخوة. وتكون الخسارة أكثر فداحة، عندما لا يترجم ذلك الوجع والتوق إلى كلمات، أو نصوص شعرية مقنعة، تماهي لوعة الكائن، بقدر ما يسد منافذ الذات بالأنات والآهات، فالتاريخ لا يعيد سرد صيرورته على نحو تراتبي إعتباطي، إنما يقوم على مأساوية الحركة كما حاولتها الذات كلحظة حرية متكررة، وجسّدها النص الشعري الأنثوي في أكثر من محطة، وبأكثر من صيغة، كما يبدو من الخط البياني للخطاب. وبملاحظة العلاقة التلازمية بين الوعي والمهمة الشعرية، يلاحظ أن النص الشعري الأنثوي، غالبا ما يبدأ بضربة عفوية ومباشرة في عمق الواقعة العاطفية، ليحدث تعالقه التلقائي الصريح بجوهر الحياة، فهو نص جذل، يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، وتنعدم في أولياته المسافة بين الذات وموضوعها، ولذلك يغدو بحدته التعبيرية أقرب إلى الصرخة أو الاستغاثة وربما النشوة أو القهقهة أحيانا. إذا، فالمرأة كشاعرة، بقدر ما هي وثيقة الصلة بالذاكرة التاريخية، ودلالاتها الإنسانية، مموضعة على الدوام في واجهة الحدث الإنساني، الأمر الذي يدفعها بموجب ذلك الشرط الوجودي لاجتراح قوانين كتابة تعبيرية مضادة، وإن بدت تلك الذات المبدعة لفرط الإنتحابية مجرد بكاءة، أو ما يشبه القصبة المجوفة عكس ما يفترضه باسكال من كون الإنسان " قصبة مفكرة" فالشاعرة تصدر أصواتا توقيعية ولكنها غير مدوزنة، بل مبثوثة كيفما اتفق. أما أصل النص كمخطوطة، أو كوثيقة مكتوبة بخط المبدعة كما يقارب في النقد التكويني مثلا، فيبدو في الغالب شديد التعالق في أولياته بالأشياء، إذ تمنحه تلقائية الضربة الأولى القدرة على بعث الطاقة الحية للنص، وحيث تشير ركائزه المادية إلى براءة التصور الأنثوي للوجود فيما يشبه مراودة الضحية لكتابة تاريخها، أو تنصيص أوتوبيو-غرافيتها بشكل شعري، قبل أن يعبر النص ضرورات التنقيح، وتمرير العبارات في ممر ضيق من الإحترازات، وخنقها تحت وطأة سقف خفيض، بجملة من المضادات والتحفظات، التي تعطل الكتابة الشعرية كفعل وجود. كم يشبه الدموع والضحكات والشهقات والحشرجات، فهو نص إيمائي حر في جوهره، وفي تدفقه نحو حقيقة الاعتقادات العاطفية، لكنه سرعان ما سرير بروكست ليفصل عباراته على متطلبات الضرورة، ويدخل مع الحقيقة والذات والمفاهيم في علاقة مقننة، مصفاة من وجع التجربة، وحرقة الخبرة، الأمر الذي يخلع عنه أحيانا سمة الشعرية لينزاح إلى نبرة خطابية أو ممارسة حقوقية مصعّدة، كما في نص اليونانية غالاتيا كزنتزاكي" خطيئة " الذي يموضع المرأة في مجابهة أو محاكمة اجتماعية. هكذا يشوه النص الشعري الأنثوي بارتكاسه إلى صورة الوجود عوضا عن الوجود ذاته، ليفارق الكتابة الشعرية التلقائية الى قالبها المدّبر، ويكون مجرد قناع يعزل النص عن جوهرانيته ويحيد به إلى مشتبهاته، وبذلك تصدق مقولة نيتشة، حتى على نصها الشعري، فلا شيء يبدو متناقضا مثل الحقيقة عند المرأة ، لأن الحقيقة جزء من البلاهة في نظرها، بغض النظر عن مسببات ذلك الجفاء المدّبر مع الحقيقة. وهكذا كان لمتوهم في النص الأنثوي يتقدم، فيما يتضاءل المعاش، حيث الفكرة المستعارة، التي تهرّب بواسطتها الذات من مركز النص، في قوالب جاهزة، وطرق آمنة، تصل بالأنا إلى ضالأنا إلى ضفة التسالم النفسي الاث ينتفي القلق الوجودي لتسقط الذات في العطالة، وتكون الكتابة الشعرية حينها محاولات تكيفية، أقرب ما تكون إلى العادات السلوكية التنفيسية الرتيبة، التي تشبه طقوسية الاول الهموم اليومية، ولا يمكن بأي حال أن تندرج في آلية إنتاج المعنى الحياتي أو الإبداعي أو المعرفي، فكل شيء ناجز، لا يشوبه الاالمغامرة، ولا يتحفز بحرقة الوعي والخبرة الحسية. وبالتأكيد، ليس بإمكان الشعر تصحيح سطوة الواقع، ولا التاريخ، لكي لا تتحمل الشاعرة وزر تصحيح خطأ تاريخي ما زال يفرض ارتباكاته، ولكن الكتابة الشعرية تحفظ للذات حيويتها من أجل القادم، وهو ما يبدو كنوايا مضمرة ومعلنة في النص الشعري الأنثوي، فالوعي التاريخي، والكينونة أيضا، يمكن تأسيسها على علاقة جدلية بمفهوم الكتابة الشعرية، التي قوامها العصيان، فهي على محك حداثة تحاولها، وتزعمها أحيانا، وقد لا تطالها عبر النص الشعري. وربما يمكن ارهان على إحساس الشاعرة التراجيدي بعنصر الزمن، كما بدى في منعطفات تاري منعطفات تاريخية لافتة، ليس بالاعلى الذات، إنما بالتصعيد العاطفي كمشروع فردي، ليتوحد النص وأفكاره وشعوره ولا شعوره فيما يشبه الرؤيا الشخصية للوجود، لا أن ينتظم في مفردات مستنقعة في حضّانة معجم بوطيقي الأنوثة، أشب بالقشور دون روح أو معنى، فالورقة البيضاء ليست إلا مكانا للترجمة اللفظية، أما الحياة فهي المكان الحقيقي للنص. ولأن الشعر، في أبسط صوره الأنطولوجية شوق مزمن للحرية، ومواعدة للذات بالانعتاق، أو ما تسميه شيمبورسكا " ذراع الخلاص " حتى وإن لم تتحقق تلك النيات، أو هذا تعلنه الشاعرة، لم يكن بإمكان تلك الذوات الخرساء أن تنتج إلا نصا صامتا، يتمادى فيه اللفظ حد التسيد على حساب الفعل والمعنى، نتيجة الفائض الرومانسي، فقد كان نصها معفى من التمرد لفرط إصغائه للمواعظ والوصايا البائتة، المنبثة من إملاءات فوقية أخلاقية واجتماعية، عوضا عن احية من نداءات الحياة. هذا هو ما حدث كائنات بوسة في ذوات إمتثالية، أو هكذا تصنف، ولا زالت تعيش ضمن بعض المجتمعات تحت وصاية باطرياركية، لدرجة أن الشاعرة المغربية فتيحة مرشيد، صاحبة ديوان " إيماءات " وصفت علاقتها بالشعر بأنها كانت سرية على الدوام، وقد عاشتها " كعلاقة غير مشروعة، بحدة وقلق ، وبمتعة يشوبها إحساس بالذنب " فهذه الكائنات قدرها أن تحلم أكثر مما تمارس إنوجادها. وإذا ما حاولت الحضور بالشعر، إستعانت بالرجل، لتستعير صوته وأدواته إحتفالا بامتياز أنوثتها، ولكن على طريقته، لتعيد سيرتها القديمة وهي تهريب سيرتها العاطفية، وذاتها المقهورة من نصوصها المسيجة بالتابوهات، وكأن صور القههر ترحّل إلى واقع النص الأدبي عبر الوسيط الاجتماعي، لتظل كائنات مغلولة، لا تمل من التقنع . نازك الملائكة السياب