في مقدمة (كوب الزّار) يشدد ماكس جاكوب على أن الكاتب ليس أسلوبه وحسب، بل هو لغته، حسّيته. وهو المنحى الذي تتمثّله نضال حمارنة، أي الانكتاب بذات متشهّية، حيث تنبث منها كلمات شديدة الالتصاق بمضامينها، لتشي بحكاية (امرأة لوت دموعها إلى الداخل... وسدت منافذها... حجبت السعادات عن رجل من دمها). هذا الرجل (الممتلئ بصهد الشهوة) الذي يبدو على مدار النص منغرساً في سرير الغرام، هو الذي يسلمها بحسرة غيابه الجسدي، ونوبات استحضاره من المنقضي إلى (وجع خافت جداً) كما تطوّح بسيرتهما الضاجة بالرغبات في مجموعتها الشعرية (مفاعل حسي - نصوص تبحث عن GENDER) الصادرة عن (عشتاروت للخدمات الطباعية) حيث يميل العنوان كمفتتح إلى تصعيد لغوي يلهث وراء استيهامات الجسد، من ذات شاعرة، عليمة بما تسميه (فقه الحواس). في (لحظة فيضان) تنفصم تلك الذات المصابة بحالة معلنة من تشهّي الآخر، بين الفائض من توقها الحسّي وما تعتقده مزاجاً لغوياً جامحاً يتجاوز مراداتها الغرائزية (كم أحقد على الكتابة لأنها تعبّر عني... أكثر من أعضائي). وبموجب هذا التقريع الحسّي للذات، تستفز منابعها اللسانية لتبتكر مفردات خارج حضانات القاموس، لتعانق بها ذلك المترسب في دمها، كما تتودده بامتنان الأنثى المجبولة على الانغرام به (رفعتني إلى الهاوية...أزحت عن وجهي غبار التردد). أو كما تناجيه بتبتل سافوي (لأنك... عميق تحت جلدي). وتلك هي طريقتها في تدبير المعسول من الكلام، فكل مخاطباتها له تنوء بعبارات درامية تُبين عن أطلس مشاعرها، حيث الدفع بالشعور إلى أقصاه، كما تؤرجح عاشقها في نص (عتمات) على إيقاع كلمات مقطورة بالحنين الجارف (تماد بشدة... أترك لفوضاك الرحابة... وتعال... كما تأتي الأشياء لحتفها). في عتمة النص المصمم كمحراب للذات المتدلّهة، تعيد تدوير الأحاسيس ذاتها، وعلى نفس الإيقاع أيضاً، فيما يبدو استئناساً بطقوس التودد اللاهبة، أي بذرف دموع الشوق والتقرب، لا الشكوى. حيث تتوسله بنداء الكائن المسكون برغبة استدامة شعور الوصل (حين تجد... دمعتي على كتاب "ريلكه"... وبقايا أصابع على حيطان... صومعة الضوء... توار في هاوية المخدة... أو... أرقص على موسيقى سريرك... الهابطة). ثم تستكمل هذا الخدر الشعوري بلذة وصلٍ مدبّرة بالخيال المثقل بسطوة الحواس، أو فيما يسميه رولان بارت (الاستهياء) كما يفصح عن ذلك الدوار الملذوذ خيط لغتها الرهيف، الموصول بفراغات أو سكتات مكتظة بالحمولات الحسية، أشبه ما تكون بدراما الصمت (من زاوية ما في الغرفة... على هديل الضوء البطيء... لمحت... ظلك على ظلي... على السرير الفارغ). مغرمة هي كما يبدو بجمالية التعبير التفصيلي الهادئ عن نشوة شعورها بانفجار (أناها) الحسّية، حيث المعاني والصور تنحت مساربها في البنية الغائرة للنص وتنعكس على سطحه الظاهري كعبارات موحية، كما تحيل إلى ذلك الإحساس مفرداتها الرخيمة، المنتقاة والمسنونة على حافة الجسد. فهي تعرف بالتحديد معالم وسجايا صاعق حواسها الذكوري، المبثوث كرداء حسي طري يغطي كل مسامات النص، إذ تستدعيه باشتهاءات معلنة في حركة لغوية بندولية ذهاباً وإياباً. فهي لا تنهي الحديث عنه إلا لتعود إليه لتستأنف مناغاته وكأنها تؤكد على مظهر تكويني أصيل من مظاهر ما يسميه فرويد (الجبّلة الأنثوية) حيث يمكن امتصاص ملامحه المظهرية وأحاسيسه المؤلبة من سياقات النصوص، وإن كانت رغم جسارتها التعبيرية لا تفصح عنه بشكل كلي، بل تواربه بالحد الذي يستلزمه القول الشعري، لكي لا يطفو على النص أي تمثل مادي يطمر أحاسيسها، كما يستشف من عبارتها التلميحية الفطنة التي تعد بتنصيص ما يتيسر منه، أو ما تصطفيه تحت عنوان (مقتطفات منك). في مفاعلها الحسي، ذات منشدهة، تنطرح بدون تردد في متخيل سردي، لتستزرع نصها بعلامات حضوره الجسدي والنفسي، فالوقائع والصور الحسّية (بندق عينيك) يعادلها إفضاء لغوي صريح بمزاجه ونسيجه الشعوري والعاطفي، كما تعبر عن حسه الحميمي إزاء زوايا أنوثتها الصغيرة بعبارة فارطة في الرومانسية (قضمك الحنون لخنصري البارد) أو عندما تتغارق في أثيرية معناه الحسّي (أريدك أن تغيب... وتأتي بلا عطر... حليق الذقن! أو غير حليق... تسبقك رائحة حنان شرس) أو حين تعدد مآثره الغرامية، وقدراته الفذة على دغدغة أدق تفاصيلها الأنثوية (تمرجح فوق زنديّ الكلام). وأحياناً من خلال اعترافها بكفاءته الاستثنائية في استفزاز الهاجع من جسدها (في العتمة... فقط... في العتمة... بلّور يدك... يحز خصري... بحد الشهوة). قد يكون (الآخر) هو المعادل للجحيم، حسب الاعتقاد السارتري، ولكنه بالنسبة لها، هو النعيم حتى وإن اتخذ لبوس الفردوس الذكوري المفقود، أو تشبّه بزمن الحبيب الضائع. وعلى هذا المبدأ البنيوي تتأسس صورتها الشعرية، أي على معاندة المتوقع من الأحاسيس والأفكار، والإصرار على تقويض أفق التلقي بالانحياد عن الدارج من المعاني، مع إلباس حالة الإنكار الخارجية ما يؤكد على جوهرانيتها، بمعنى الإبقاء على حس الإغراء داخل مظهريات التمنع الأنثوي، ففي نصها (وعد) تهشّم أداة الاستدارج الحوائي الكلاسيكية (التفاحة) التي اعتادت المرأة التلويح بها للرجل، حيث ترمي بعبارات إغوائية مربكة تكاد أن تنجرف بالنص من الذاتية إلى الأنوية (لن تقضم هذه التفاحة... عدْ إلى جنتك... فالأرض لي). وفي نص (وادي القمر) تقلب المقولة السقراطية الشهيرة عن تمثل الذات من خلال خطابها أو منطوقها، بعبارة مباغتة وفارطة في الخدر الحسّي (أصمتْ كي أراك). وهكذا تدور باللغة داخل اللغة لتولّد الملذوذ من التصويرات والمعاني، وكأنها تمارس أقصى ما يمكن من الانحراف باللغة، والإخلال باعتياداتها الاستعمالية، لينبثق الشعر بحسه الاستدعائي اللاهث وراء الوقائع، الذي يبدأ بعد انقضاء الحكاية، وإن حاولت اللعب بحيلة الأفعال اللغوية للإيهام بفعل الحدوث. أو ربما هي الرغبة اللاواعية لتمكيث الشعور. الغياب هو الذي فجر أحاسيس (امرأة وحيدة... تمزج مصيرها بفنجان شاي) حيث ينشحذ الخيال ليتخطى حدة الحواس، وحيث الوجود المتخيّل ينوب عن التمثّل العيني. وهذا هو حال الذات المنفصمة ما بين استعادة صخب المباهج الآفلة، ووعود الوقائع المحلوم بها، كما تستكمل سيرتها بنبرة رمادية خفيضة، لا تخلو من التهكّم، تتهابط بها حد الاحتفال المرّ بهزائمها (جسدي سلطة خائبة) والتسليم بانفلاتاتها الشعورية (أمارس في أهوائك... حواراً غير لبق) فيما يبدو تأريخا للذات الأنثوية المغلولة لفائض حواسها، حيث تتوضح فداحة انفراط الشعورين/الجسدين في نص (مسبحة بلا خيط) بما يشبه تلاشي الذات أو تهاويها في نوبة من هستيريا الفقد المعبر عنها بتوصيف جنائزي (على مرآى من الجميع... أحرق ملامحي... بضحكة لا تحتمل). الحسّي عندها ليس نوبة طارئة، أو مفردة إغوائية لتأنيث النص، إنما هو شعور أصيل يتهيّل من مفاعلها الجسدي كصور شعرية متدافعة. وهو قيمة مهيمنة في نص أنثوي بامتياز، وإن كانت تنفي بمجازية مثيرة للتخرصات التأويلية انبثاثه من ذات مجنّسة. وعلى هذا التضاد الدرامي ينهض النص، أي على اللهفة والمناداة بالحاجة إلى الرجل وتأكيد مرغوبية المرأة المتأصلة، أي ما تكتبه مجسات الحواس، حيث (الأصابع تقرأ الشعر) أو ما تعتبره (مشاطرة حسّية) مأهولة بحنينها إلى الحبيب، واكتفائها به، مع التلويح له بمباهجها تحت هذا العنوان المغوي (أركل سقف العالم... وأهوي إليك... ريشة.. ريشة... كأني جناح... تحسني في سطور رينيه شار). أو هكذا تتفنن في الانطراح بخفة شعورية مؤلّبة مقابل سطوة (رجل ينسى يده) كما تعنوّن ذاتها الراغبة تحت فيوضاته الحسية، وكما تسرد ألقهما الجسدي بدفق عباراتي حنون (لأن يديك... تذهبان بعيداً... مثل أفكارك) إلى أن تعلنها بصراحة، في نصها المركزي (مفاعل حسي) وفيما تسميه (تواطؤ في الترجمة) حيث تعلّق الغياب سبباً لانفجار حواسها، وتطاير شظاياها اللغوية، فيما يبدو اعترافاً جمالياً بكون الأثر أمضى من صاحبه (حين تغيب... ألعق خاتمي... وأتوه مع ظلٍ...تشفّى بجسدي).