شاءت المقادير أن تتجمع في أفق مهنة الصحافة خلال الأسبوعين الأخيرين إشارات عدة ، مسكونة بالدلالات والمغازي، حتى ان كلا منها يستحق أن يكون محطة للوقوف والاعتبار. وقد كانت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين واحدة منها، وإن لم تكن أهمها ولا أخطرها. (1) الأخطر في ظني هو الاختراق الأمريكي الصريح للساحة الإعلامية العربية، الذي يستهدف إعادة تشكيل الإدراك العربي، جنبا إلى جنب مع مساعي إعادة رسم خرائط المنطقة. وأرجو أن تلاحظ أنني أتحدث عن اختراق صريح ومكشوف، لأن المشتغلين بالمهنة يعرفون أن هناك اختراقا آخر وقع منذ سنوات. وتزامن مع درجة الانكسار والانبطاح في العالم العربي. وهي الأجواء التي استصحبت حالة من الهشاشة والضعف هيأت فرصة مواتية لاختراق العديد من المواقع والقلاع، كانت الساحة الإعلامية العربية واحدة منها. ولم يعد الأمر يحتاج إلى تمرس طويل في المهنة، بل لم يعد الأمر بحاجة لأن يصبح المرء مشتغلا بالمهنة أصلا، لكي يعرف من يمثل حزب أمريكا في الإعلام العربي. ذلك ان الكتابة في بعض أوجهها هي شهادة أو اعتراف، تكشف عن حقيقة المربع الذي يقف فيه كل كاتب. ناهيك عن أنه في حالات عدة، فإن نفرا من عناصر ذلك الحزب اصبحوا يتباهون بانتمائهم، ويبعثون برسائل المحبة والشكر للدبلوماسيين الأمريكيين على صفحات الصحف السيارة. ومنهم من أصبحوا يصرحون في المجالس والمحافل دون مواربة. احنا بتوع أمريكا ! هذه الدرجة من انكشاف الوجه لم تكن كافية فيما يبدو. فقد خرجت علينا صحيفة (الشرق الأوسط) (في 2/8) بتقرير من القاهرة يقول أن مسئولين في السفارة الأمريكية وهيئة المعونة الامريكية يقومون حاليا بوضع اللمسات الاخيرة لمشروع يستهدف إصدار بعض الصحف العربية وإنشاء محطات تليفزيونية فضائية تخاطب العالم العربي. وهذا المشروع، الذي يفترض ان يشمل 8 دول عربية في المشرق والمغرب والخليج، سوف يسهم في تمويله شركاء عرب محليون، وحسب التقرير المنشور، فالمراد هو: المساهمة في إصدار صحف تتمتع باستقلالية كبيرة، بعيدا عن تدخلات الحكومات والاحزاب العربية، وباستقلالية أكبر في التعامل مع القضايا الأمريكية ... وهو ما سيحقق الهدف الذي ترجوه واشنطون، وهو الحفاظ على مصالحها. في هذا السياق فإنه سيكتفي بنسبة تتراوح بين 5 و 10% من المواد التحريرية في كل صفحة لتجميل وجه أمريكا. وهذه ستزيد مع الوقت، بعد ان يعتاد القاريء العربي على حيادية تلك الصحف. في التقرير معلومات أخرى عن الاطار الذي تتم فيه هذه المبادرة التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، واعتمد لها 147 مليون دولار. وهي المبادرة التي سيبدأ تنفيذها في العام القادم (2004). ويعني شق منها بتوسيع المشاركة السياسية، وقد خصص من المبلغ المعتمد 23 مليون دولار لإعادة هيكلة الصحافة العربية. (التي يعول عليها الأمريكيون ، نظرا لأنها الوحيدة القادرة على خلق مجتمعات مفتوحة وديمقراطية على النهج الأمريكي). وهذه الفقرة الأخيرة منقولة نصا عن التقرير المنشور. (2) إذا صح هذا الكلام، وأغلب الظن أنه صحيح لأنني طيلة الأسبوع المنقضي أترقب تصويبا أو تكذيبا له ولم أجد، فهو يعني أن الساحة الصحفية العربية مقبلة على مستوى من الاختراق غير مسبوق. لأن استخدام الإعلام في التأثير أو التوجيه الثقافي مستقر ومعمول به منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما وثقته باقتدار وتفصيل مؤلفة كتاب الحرب الباردة الثقافية، الباحثة البريطانية فرانسيس سوندرز، وفي كتابها، وفي كل المعالجات المماثلة، فإن استخدام الإعلام أو الأنشطة الثقافية والفنية كان يتم بطرق ملتوية ومن وراء أقنعة و لافتات متنوعة، أريد بها تضليل الرأي العام وصرف الانتباه عن الأيدي الحقيقية التي تحرك تلك الأنشطة. الآن صار اللعب على المكشوف تماما، وبطريقة يختلط فيها الاستهتار بالاستغفال. فها هم يقولون صراحة اننا سنفعل كذا وكذا. وسننطلق من قلب العواصم العربية لكي نقول ما نريد. بل انهم يصرحون بأن تجميل الوجه الأمريكي هو الهدف، وأن كل صفحة - وليس كل عدد - ستتضمن مواد بنسب تتراوح بين 5 و 10% لخدمة ذلك الهدف، وستزيد الجرعة تباعا، وهذا هو عين الاستهتار إن لم يكن الازدراء. أما الاستغفال فهو يتجلى في الإدعاء بان المراد هو اصدار صحف تتمتع باستقلالية كبيرة بعيدا عن تدخلات الحكومات والأحزاب العربية، ثم القول بأن نسبة معينة من المواد المنشورة ستركز على تجميل وجه الولاياتالمتحدة، وأن تلك النسبة ستزيد مع الوقت، بعد أن يعتاد القاريء على حيادية تلك الصحف. وكأن تدخلات الحكومات والأحزاب فيما تنشره الصحف هو ما يهتك حيادها وينال من استقلالها. أما تحسين الصورة الأمريكية من خلال نشر مواد بجرعات معينة تخدم ذلك الغرض في قلب العالم العربي، فإنه لا يتعارض مع الحياد المفترض ولا يخل به! ترى، ماذا سيكون موقف نقابات الصحفيين في العواصم العربية، وما هو موقف اتحاد الصحفيين العرب من هذا الاختراق العلني والمفضوح ؟! (3) أنهم يخترقون إعلامنا هنا، ويعززون حصون إعلامهم هناك. ذلك أن ما فعلته صحيفة يويورك تايمز في الأول من شهر اغسطس الحالي، يبعث برسالة إلى المؤسسات الصحفية وجميع العاملين في وسائل الإعلام في كيفية التمسك بثقة القاريء واحترامه، باعتبار أن اهتزاز أي منها يفقد الصحيفة صدقيتها، ومن ثم مشروعيتها. ذلك أن الصحف كما نعرفها صنفان. صنف يستمد الشرعية من ثقة السلطة. و صنف آخر يستمد تلك الشرعية من ثقة القاريء. ولأن نيويورك تايمز التي تعد أهم صحيفة في العالم، من ذلك الصنف الأخير ، فقد قامت الدنيا ولم تقعد، حين اكتشفت ان أحد صحفييها الشبان كان يلفق تقاريره وينشرها منسوبة إلى مصادر من خياله أو مجهولة. الأمر الذي اعتبر غشا وإخلالا بالأمانة. وتلك جريمة تعد من الكبائر التي لا تغتفر في عرف أي صحيفة محترمة. لذلك لم يكتف في مواجهة ما جرى بفصل الصحفي جيسون بلير، وإنما تحمل رئيس تحرير الجريدة ومديرها التنفيذيين مسئوليتهما الأدبية، إزاء ما جرى فقدما استقالتيهما التي قبلت. برغم كفاءة كل منهما المشهودة في منصبه. وبدا ذلك إجراء كافيا لتضميد الجرح وإزالة آثار الجرم. لكن ناشر الجريدة آرثر سولزبرجر ذهب إلى أبعد. فشغل هو وفريقه بكيفية التحسب للمستقبل. حتى لا يتكرر ما وقع مرة أخرى. ولذلك قرروا استحداث منصبين جديدين لأول مرة منذ 152 عاما هي عمر الجريدة، أحدهما اعطى لقب محرر الجمهور والثاني سمّى محرر القيم. محرر الجمهور سيتلقى رسائل القراء وملاحظاتهم. وينقلها إلى إدارة الجريدة أولا بأول، لكي تضعها في اعتبارها وتسترشد بها. أما محرر القيم فهو أقرب إلى محتسب المهنة، الذي يراقب التزامها الأخلاقي والمصالح التي تتحراها فيما تقدمه من خدمة صحفية. في الوقت ذاته لفتت الإدارة الجديدة للصحيفة انتباه مراسليها إلى التقليص قدر الإمكان من الاعتماد على كلام المصادر غير المسماة، بحيث يكون الأصل ان ينسب الكلام إلى مصدره الحقيقي. لقطع الطريق على افتعال البعض لتصريحات منسوبة إلى مصادر مسئولة أو مأذونة أو مطلعة، وبحيث يصبح القاريء على بينة من قائل الكلام ومصدره الحقيقي. إذ قدرت ذلك كله واحترمته، فإن أول سؤال خطر لي وأنا أتابع تلك الخطوات كان عن صحافتنا المصرية والعربية بعامة. وحاجتها الملحة إلى مراجعة أوضاعها لاكتساب شرعيتها من ثقة القاريء واحترامه. خصوصا في ظل التراجع المشهود في توزيع الصحف. ورغم ان لذلك التراجع أسبابا عدة. بعضها يتعلق بالركود الاقتصادي العام ، والبعض الآخر وثيق الصلة بالمنافسة القوية من جانب الفضائيات العربية التي احتلت مكانة هامة في التأثير على إدراك المواطن العربي خلال السنوات الأخيرة، إلا أننا لا نستطيع ان ننكر ان ثمة خللا في الأداء الصحفي ذاته، أثر على ثقة القراء، ومن ثم كان له إسهامه في التراجع الذي نتحدث عنه. وبغير نقد الذات وتحديد مواضع ذلك الخلل، إن تجسير الفجوة بين الصحافة والمجتمع لن يكلل بالنجاح. (4) في هذه الأجواء، تم انتخاب نقيب جديد ومجلس جديد لنقابة الصحفيين في مصر. وهو حدث كانت له رسالته المهمة التي أرجو ان يكون قد استلمها واستوعبها من يهمه الأمر، كما كان له صداه في أوساط المهنة. لكنني لم أفهم لماذا اعتبرته جريدة العربي الناطقة باسم الحزب الناصري انقلابا (عدد 3/8)، رغم أن الانتخابات جرت في جو ديمقراطي حر . وبدرجة عالية من الشفافية والنزاهة، تحقق في ظلها تناوب المواقع وتداولها مع عناصر القوى الوطنية التي حازت ثقة أغلبية الصحفيين. وهو ما يتعذر وصفه بأنه انقلاب، لان مفهوم الانقلاب عكس ذلك تماما، فلا يتم بالانتخاب، ولا يفترض فيه التداول السلمي، وليس هناك وجه شبه بين التداول الذي تم وبين الانقلاب إلا في عنصر المفاجأة الذي أسفرت عنه النتائج. لذلك فأرجو أن يكون ظني صحيحا في أن الجريدة كانت تعني بالانقلاب أن ذلك ما حدث في التوقعات وليس في النقابة، وأن الانقلاب المشار إليه في هذه الحالة وصف مجازي وليس حقيقيا. وإذا كان الفرحون قد ذهبوا بعيدا في فرحتهم حتى وصفوا ما جرى بأنه انقلاب، فإن الذين احزنتهم النتيجة بدوا اكثر غلوا في التعبير عن احباطهم. فلم يروا فيما حدث سوى إنه نذير شؤم ومؤشر للخطر، يستوجب الاستنفار والتحسب والحذر - كيف ولماذا؟ قرأت تعليقا نشر في أعقاب إعلان النتائج التي اسفرت عن فوز الناصريين والإسلاميين بثلثي مقاعد مجلس النقابة، فضلا عن فوز النقيب المحسوب على الاتجاه الناصري القومي، دعا إلى عدم إجراء انتخابات ديمقراطية قبل إنجاز الاصلاح الليبرالي حتى لا تذهب الأصوات إلى امثال القوميين والإسلاميين، الذين اعتبرهم صاحب التعليق قوى معادية للديمقراطية، هكذا بالمطلق ! ناقشت الفكرة ببعض التفصيل في مقام آخر. ومما قلته انها مسكونة بالمفارقة ومزالق الخطر. أما المفارقة فتتمثل في أن الانتخابات حين جرت في السابق في غياب الإصلاح الليبرالي الذي يتحدثون عنه، وجاءت نتائجها متفقة مع الهوى. فإنها قوبلت بالحفاوة والترحيب، أما حين أسفرت عن غير ما يشتهون، فإنهم استخرجوا الحجة من الجعبة وراحوا يحذرون من خطر انفصال الديمقراطية عن الليبرالية. وهو ما يعني أننا لسنا بصدد موقف مبدئي يدافع عن الليبرالية. ولكننا بازاء موقف انتهازي يتلاعب بالليبرالية تبعا للهوى. من آيات الخطر في الفكرة أنها تحصر العداء للديمقراطية في التيارين القومي والإسلامي. في تعميم لا يستند إلى معيار موضوعي. وفي دعوة مبطنة للإقصاء والنفي، تمهد لفاشية جديدة. خصوصا أن واقعنا العربي يعرف حالات عدة غيبت فيها الديمقراطية دون أن يكون لأي من التيارين نصيب في المسئولية عنها. وإذ تدعو إلى تأجيل الانتخابات حتى يتحقق الإصلاح الليبرالي، فإن الدعوة توفر ذريعة مجانية للأنظمة غير الديمقراطية، للتمادي في غيها، حيث تستطيع أن تتعلل بعدم اكتمال مسيرة الإصلاح المنشودة. لكي تعطل الانتخابات الديمقراطية لأجل غير مسمى. الأمر الذي يضعنا إزاء مفارقة من العيار الثقيل، يصبح فيها الحرص على الديمقراطية ذريعة لعدم إجراء أية انتخابات ديمقراطية ! فضلا عن هذا وذاك فإن الفكرة تستدعي تساؤلات عدة منها مثلا: كيف يمكن إجراء قياس موضوعي يطمأن إليه في تقرير إنجاز الإصلاح الليبرالي، لكي نشرع بعد ذلك في إجراء الانتخابات ؟ ومن المخول أن يحدد النقطة التي عندها يمكن القول بأننا أصبحنا ليبراليين بما فيه الكفاية، ومن ثم فبوسعنا أن نجري انتخابات حرة دون خوف أو قلق ؟ - وأين يحدث ذلك في أي مكان بالكرة الأرضية أو على مدار التاريخ ؟ ولماذا يتعين علينا أن نوقف المسيرة الديمقراطية حتى يتحقق الإصلاح الليبرالي المنشود ؟ - لماذا لا تتحرك المسيرتان بشكل مواز ، فنجرى الانتخابات الحرة على مختلف المستويات، النقابية والبلدية والنيابية، وغيرها، وفي الوقت ذاته تستمر عملية الإصلاح الليبرالي. وبذلك تزداد حصانة المجتمع وتتعزز عافيته، حتى يصبح بمقدوره أن يتصدى لأي قوة تحاول العصف بالديمقراطية، أيا كانت هويتها. (5) سيكون موقف مجلس النقابة الجديد إيجابيا ورصينا لو أنه قدر للسابقين جهودهم، وشكرهم على ما فعلوه، وعذرهم فيما لم يستطيعوا لم يستطيعوا فعله، ثم انطلق بعد ذلك متطلعا إلى المستقبل لمواصلة مهمة تحصين البيت الصحفي وترميمه، ومن ثم إكمال المسيرة التي بدأها الآخرون دون إنكار لجهودهم أو تصور إمكانية الابتداء من نقطة الصفر. إن الدفاع عن حرية الصحافة أو كرامة الصحفيين أمر ليس مطروحا للاجتهاد او اختلاف وجهات النظر، وهو دور حاولت نقابة الصحفيين المصريين القيام به على مر العصور، خصوصا خلال السنوات الأخيرة. علما بأن حرية الصحافة جزء من الحريات العامة، الأمر الذي يدفع بالنقابة بالضرورة إلى ساحة النضال دفاعا عن الحرية والديمقراطية في المجتمع. ونظرا لخصوصية الظروف الراهنة، المتمثلة في كثافة وتعدد الضغوط والتحولات الخارجية التي تعد محاولات اختراق الساحة الإعلامية من بين تجلياتها، فإن ذلك يضيف إلى كاهل النقابة مسئولية إضافية فيما يخص دورها الوطني. إذ تفرض عليها هذه الظروف أن تتصدى لعملية الاختراق بكل ما تملك من وسائل وقوة. وتلك إحدى جبهات الدور الوطني المنوط بالصحافة، وازعم أن ثمة جبهة أخرى في هذا الصدد لا تقل خطورة، تتمثل في وحدة الصف الوطني. ذلك أن بعض المنابر الصحفية أصبحت تلعب دورا سلبيا في هذه الساحة، من ذلك أنها تسعى - مثلا - إلى تفجير العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين، الأمر الذي في شأنه إشعال حريق الخلاف العقائدي، ومن ثم تعطيل الحوار الوطني الذي يستهدف الاحتشاد وراء قضايا الديمقراطية والتصدي للاحتلال في فلسطين والعراق. ومن أسف أن بعض الإصدارات الأسبوعية المصرية تسهم بصورة منتظمة في إذكاء نار ذلك الحريق. أدري أن أمام النقيب ومجلس النقابة الجديد ملفات كثيرة، أتمنى أن ترتب حسب أولوياتها، سواء فيما يتعلق بالمهنة أو فيما يخص الوطن. وإذ ألمحت توا إلى جانب مما يخص الدائرة الثانية، فإنني لا أخفي قلقا من التآكل المستمر في قيم وتقاليد المهنة، الأمر الذي افقد كلمة (الصحفي) بهاءها ورنينها، أما كلمة (الكاتب) فقد أصبحت نموذجا صارخا لاغتيال المعنى، حتى أنني لا أعرف إن كان يجدي في حالتنا أن تعين صحفنا محرراً للقيم كما فعلت (نيويورك تايمز) أم لا ؟!