قال الراوي: (وأرسل الحارث بن عباد، وهو احد حكماء بكر وفرسانها المعدودين الى المهلهل من يقول له: ان كنت قتلت بجير بكليب وانقطعت الحرب بينكم وبين اخوانكم فقد طابت نفسي بذلك). فأرسل المهلهل من يقول للحارث: (انما قتلته بشسع نعل كليب!). اي انه قد قتل نفسا مقابل ذلك الجزء الصغير من النعل الذي يدخل بين اصبعي الرجل، واذا سلمنا بوجود حد فاصل بين الشجاعة والتهور، فقد كانت لغة الحارث عقلانية وشجاعة تحاول ان تضع حدا لاقتتال دام عشرات السنين فأثكل ورمل ويتم أناسا لا ناقة لهم في ذلك الصراع ولا جمل، وكانت لغة المهلهل انفعالية ثأرية متهورة وغير مسؤولة، وكان لزاما على الحارث بعد ذلك الرد المتغطرس ان يصطلي بنار حرب عبثية لم يكن (من جناتها) ولم يكن مقتنعا بعدالتها، هكذا ساهم الاعتداد بالنفس، ونزعة الأخذ بالثار وما يرافق تلك الطنطنة من مفردات الحمية والفخار والسؤدد والمجد في استمرار حرب ضروس دامت أربعين عاما. ولم تكن الأسباب التي أدت الى اندلاع حرب (داحس والغبراء) بين بني عبس وفزارة اكثر وجاهة من الاسباب التي قادت الى نشوب حرب البسوس بين بكر وتغلب، واذا جاز لنا ان نعرف (بتشديد الراء) هذه الحرب او تلك تعريفا ساخرا على طريقة الكاتب الارجنتيني بورخس وهو يعلق على حرب مالفيناس الأنجلو - أرجنتينية، فانها (أشبه بصراع بين عجوزين أصلعين على مشط). اي انها صراع عبثي ما كان له ان ينشب لو تم تحكيم العقل والاصغاء الى قوة المنطق بدلا من منطق القوة. تغير الزمن، وتغيرت تبعا لذلك ظروف الحياة فهل تغيرت تلك العقلية التي افرزت مثل ذلك الخطاب العنتري المشحون بالانفعال والتشنج والاستخفاف بالحياة البشرية؟ يبدو ان المسلسل مازال مستمرا، تغير مكان المسرح والديكور والملابس والمخرجون والممثلون والجمهور لكن مضمون المسرحية واحد، والنهايات واحدة، فمن مفردات الثأر والفخر الطنانة الرنانة الى لافتات وشعارات جديدة لا تقل طنطنة عن سابقتها، لافتات بكل ألوان الطيف، تسوق الوهم فتعطي زبائنها القمر بيد والشمس باليد الاخرى، لكنها لا تساهم في دعم الاستقرار، ولا تضيف لبنة واحدة الى صرح التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويبدو ان الشارع بحاجة الى جنازة ليشبع فيها لطما، وانه سرعان ما يغرى باللافتات البراقة والمسميات الساحرة فيندفع نحوها اندفاع الفراش الطائش نحو ألسنة اللهب، وانه ما ان يجد راية مرفوعة حتى يجري وراءها لاهثا، وما اكثر الرايات في أيامنا هذه! رايات من كل لون، وهي من الكثرة بحيث يصدق عليها قول الشاعر: (قومي رؤوس كلهم.. أرأيت مزرعة البصل؟). وغالبا ما يستغل مثل هذا الاندفاع العاطفي الجياش الذي يتحرك وفقا لتأويل مجازي او رمزي خارج معايير المنطق لخدمة رؤى مشوشة، واهداف مشبوهة، وقضايا خاسرة، وفي غياب المنطق السليم تفرض تلك المسميات منطقها الخاص، فلا تناقش ولا تفحص ولا يسأل أحد عن غاياتها الخفية ونتائجها المتوقعة، فكأن الجموع منومة تنويما مغناطيسيا، وكأن زمنها النفسي لم يغادر زمن ذلك الرجل الذي اذا غضب، غضب لغضبته مائة الف سيف لا يسألونه فيم غضب. وكان ينبغي - رغم ثقتهم تلك - ان يسألوه فيم غضب.. لأنه ستراق على ثرى غضبته تلك دماء غزيرة، وستهدر كثير من الموارد البشرية والمادية، وسيعاني نتائج تلك الغضبة الأبناء والأحفاد، واذا كان (الأحنف بن قيس) - وهو المقصود بتلك العبارة الشهيرة - لا يسأل فيم غضب لأنه قد منح نظرا صائبا يميز بين المساوىء والمحاسن، وبين معالي الامور وسفاسفها، او لأنه صافي السريرة حي الضمير حتى لو علم ان الماء يغير من مروءته ما شربه والعهدة في هذا كله على الراوي، اقول اذا كان الأحنف كذلك فغيره لا يسأل فيم غضب إما خشية غضبه وبطشه وقبضته الشديدة على كل الامور، او لأنه محاط بأتباع تحركهم العواطف والأهواء أو المصالح الخاصة التي تعمي وتصم. ولذلك فانك قد تضحك ملء رئتيك عندما تقوم فضائية ما في برنامج من برامج الحوارات باستطلاع للرأي على طريقة هل أنت (مع) او (ضد) هذا الشأن من الشؤون، وتأتي النسب عالية في هذا الجانب او ذاك، فيبني مقدم البرنامج على تلك النتيجة استنتاجات ساذجة، واذا كانت مثل هذه الاستطلاعات تصلح في عالم المال والاعمال للترويج لسلعة ما، كونها تكشف للمنتج عن رغبات وميول واذواق المستهلكين لتلك السلعة، فانها لا تصلح في عالم الآراء والأفكار. وهي، والحال هذه، نتائج خادعة لا يمكن لأي صانع قرار ان يعتد بها او يبني عليها قراراته، لأنها تمثل شكلا من اشكال (التفكير الرغبي) القائم على العواطف والتمني، وليس على التحليل العلمي الموضوعي الذي يميز بين الصالح والطالح او النافع والضار من الأشياء، ان ذلك أشبه بالتعرف على رأي مجموعة من الصغار في احدى رياض الأطفال عما اذا كانوا يفضلون كوبا من اللبن او قطعة من الشكولاته، ستفوز قطعة الشكولاته بأصوات الغالبية العظمى فوزا كاسحا لأنها اكثر اغراء، فهل تعني تلك النتيجة ان قطعة الشكولاته انفع للصغار من كوب اللبن؟ لقد ابتلي الناس على مر العصور بكثير من حاكة الكلام الذين يسوقون الوهم في علب زاهية براقة تغري البسطاء باقتنائها، وما اكثر زبائن سوبر ماركت الأوهام الذين قد يتصارعون في نهاية المطاف صراع عجوزين أصلعين على (مشط) ليسا بحاجة اليه البتة، او يفتحون نوافذ جديدة على أمل ان يتسلل منها ضوء الشمس والهواء النقي، فيتسلل منها الغبار والأتربة والزواحف واشياء اخرى لا تخطر على بال أحد.. وفي صخب ذلك التطاحن العابث يذهب صوت العقلاء ذهاب صرخة في واد ونفخة في رماد.