يشكل التراث - بما هو مجموعة من العلوم والمعارف والعادات والتقاليد والصور - الحضور الاكبر للزمن في وجدان المتلقي في كل الامم, والامة التي لا تهتم بتراثها امة غير منوطة بتقدم مستمر وناجح ومؤثر, وتعددت اشكال الاعتناء بهذا التراث المادي والقيمي فرأينا المتاحف والمؤسسات الحضارية المتبنية لكل اشكال التراث, وجعله كنزا من الكنوز التي لا يفرط فيها, بل ويجعل واجهة البلدان امام الناس والعالم لعكس صورة التجذر في الماضي, والاستمرارية في الزمن. وما من شك في ثراء امم الدنيا بالعديد من انواع التراث واشكاله, ولقد رأت امة العرب في العصر الحاضر ضرورة العودة الى التراث بما ليس بما هو قيمة فحسب بل بما يعيد لها ذاتها المفقودة امام جحافل الاتجاهات والحضارات. وبغض النظر عن التعامل الرسمي - من قبل المؤسسات - تجاه التراث, والكلام الطويل الذي يقال عن ذلك, فقد تجد ان العديد من الناس يعيشون في التراث وبالتراث من الاساس الى الرأس, ويمتزج هذا التراث مع الحلم المكون للشخصية الانسانية ويظن البعض ان تكرار صور التراث الماضوية هي الحلم الذي لابد ان يكون متمثلا على ارض الواقع وهم بذلك يغفلون حتمية الزمن والتاريخ في التجدد والصيرورة, وضرورة اعطاء الانسان لعصره قيمته مع عدم اغفال التراث! ويبقى الحديث عن التراث في وجدان الناس امرا طويلا وشائكا لكني اخلص منه الى سؤال - هو السؤال/ التحدي كما يسميه عبدالرحمن منيف: ما الجدوى من الكم التراثي الموجود في اذهاننا وعصرنا الحاضر؟ وبمعنى آخر: كيف نستطيع الاستفادة من هذا التراث وتوظيفه في الابداعات الادبية والقصصية على وجه الخصوص؟ وكيف نغربل هذا التراث الحلم, وتصنع منه توظيفا فنيا متقنا ليس توظيفا للحلم, بل للقيمة الاجمل في هذا الحلم؟ التراث هو اشبه ما يكون بقطع الفسيفساء التي تباع في الاسواق, لكن هذه القطع لا قيمة لها اذا لم يجد الانسان عاملا مبدعا يستطيع التوفيق والتزويق والمواءمة بين هذه القطع المتناثرة برؤية جمالية تحمل ذوقية العصر وصرعاته المتجددة! وهذا هو حال المبدع الكاتب مع التراث. فهل يستطيع الكاتب المبدع ان يوظف التراث, ويكسر سلطته ويخلق نصا جديدا جديرا ام ان ذلك محفوف بالمخاطر والتبعات كالتي اشار لها الكاتب باربوس في قوله: نحن لسنا احرارا, نحن مشدودون للماضي, نصغي دائما الى ما صنع, ونحاول ان نصنعه من جديد فتكون النتيجة قيام الحروب وانتشار الظلم.. (مباهج الحرية في الرواية العربية - شاكر النابلسي ص 61). ولعل القارئ المتابع لتطور القصة العربية الحديثة وتوظيفها للتراث يلحظ الفرق بين البدايات الساذجة والبسيطة في استخدام القوالب التراثية كالمقامة الادبية من ناحية الجنس الادبي ومن ناحية الاسلوب وتطعيمه بالسجع والزخارف البلاغية, واستحضار رموز وشخصيات قديمة وجعلها تتحدث بما لا يختلف عن الصياغة التراثية للشخصية أي بمعنى التقليد والمحاكاة للقصة التراثية, اقول ان من يتأمل تلك البدايات بحدود اكثر من نصف قرن تقريبا, مع ما كتب والف حتى هذه الساعة يجد ان الكاتب القصصي والروائي اصبح يتعامل مع التراث وكأنه يتعامل مع لعبة مسلية فيها كثير من المراوغة الفنية, والاستحضار الايحائي والاسقاط الواعي والمتعمد المبني على دلالات هي في النهاية المقصودة من عملية التوظيف الروائي. وما التراث الا محصلة لهذا التجريب ووسيلة من وسائل توصيل هذه الدلالة. ومن هنا اعود لما بدأت به, والذي قال به عبدالرحمن منيف من ان (الموروث الشعبي) كنز لا نهاية له, لكن السؤال التحدي: كيف نستفيد منه وكيف نستعمله؟ (الكاتب والمنفى ص 226). انه بحق سؤال التحدي الذي حمل همه العديد من الكتاب الجادين, الذي مجت اذواقهم اجترار التراث ومحاكاته وتقليده بصورة هي طمس لمعالم التراث وليس لاعادة اكتشافه وفهمه, وجعله للحاضر مرآة - وكذلك العكس - ينطلق منها ابناء الجيل الحاضر نحو المستقبل الكبير! وهذا التحدي ينبع من ان القصة والرواية العربية بحاجة لان تخرج بصيغة وسمة تستشرف الافق الفني وتقارب في مأساة الانسان وهمومه, وتحاول ان تكون متابعة لمسيرة الرواية العالمية ومنطلقة من خصوصيتها العربية المحلية وذلك لضمان نجاحها على اعلى المستويات. واذا اردنا ان نستشهد بالعديد من الكتاب واعمالهم في هذا المجال والتي منها: (حدث ابو هريرة قال) للكاتب التونسي: محمود المسعودي وسواسية الايام الستة و(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل) للكاتب الفلسطيني: اميل حبيي و(قنديل ام هاشم) للكاتب المصري: يحيى حقي (الزيني بركات) و(حارة الزعفراني) للكاتب المصري: جمال الغيطاني و(متاهة الاعراب في ناطحات السحاب) للكاتب الاردني: مؤنس الرزاز و(دمشق الحرائق) للكاتب السوري زكريا تامر, و(ليس ثمة امل لجلجامش) للكاتب العراقي: خضير عبدالامير وهناك الكثير والعديد من التجارب القصصية والروائية على اختلاف مكانتها الفكرية والفنية التي اتكأت على التراث بوصفه قيمة محفزة لاستخلاص صيغة سردية جديدة للقصة العربية. وحتى لا اكون مغرقا في النواحي النظرية فلابد ان اعمل مقاربة تطبيقية تبرز كيفية تعامل الكاتب القصصي مع التراث وجعله التراث مكونا سدريا لبناء قصة حديثة. لنأخذ انموذجا من الكتاب وهو الكاتب المصري: يحيى حقي 1905-1992, ونحاول ان نستبطن بنية الحكاية العجائبية في احدى قصصه وهي قصة: السلحفاة تطير, وملخص هذه القصة: ان بطلها وهو حسين افندي يعيش عزلة في بيته الذي ورثه عن اهله الذين ماتوا ولم يبق الا هو الوحيد ونأى عن الناس والحياة لا يعرف منهما احدا واخذ يقضي حياته بالتفكير في الماضي وفي اهله الذين رحلوا عنه الامرالذي اشمأز منه جار حسين افندي فدبر له مكيدة في قسم الشرطة حتى يضعه امام الحياة ويعرف كيف يصطدم بها ويخرج نفسه من اوهام الماضي. والكتابان التراثيان المعروفان ب : الف ليلة وليلة, وكليلة ودمنة, هما ابرز الكتب السردية التي قرأها يحيى حقي, واعجب بهما واصبحا من اهم المكونات التراثية التي خلق منهما قصصه التي اتسمت وتأطرت باسلوبهما من حيث التناص في الفكرة والاسلوب, واستخدام عناصر العجائبية والغربة, وكثير من سماتهما المشتركة. وقصة (السلحفاة تطير) تتخذ من الواقع المصري احداثها الا انها تبنى على عناصر سردية عجائبية اقتنصها يحيى حقي من القصة المعروفة في كليلة ودمنة حيث اتفقت سلحفاة مع بطتين صديقتين على حملها الى مكان فيه ماء فأخذت كل بطة بطرف عود وطلبتا من السلحفاة ان تتعلق بوسطه, وحذرتاها قائلتين: اياك اذا سمعت الناس يتكلمون ان تنطقي ثم اخذتاها فطارتا بها في الجو فقال الناس: عجب سلحفاة بين بطتين حملتاها؟ فلما سمعت ذلك قالت فقأ الله اعينكم ايها الناس فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الارض فماتت. واذا عرفنا من خلال هذا ان السلحفاة قد طارت بوجود وسيط فأين وجودها في قصة يحيى حقي اذا؟ وهذا السؤال يتبدى من خلال ما نجده من شخصيات قصص يحيى حقي, اذ هي شخصيات بشرية لاصلة لها بالحيوان وهذا يستدعي في اذهاننا اسلوب الاستحضار للقصص التراثي مما يفسر لنا ان للكاتب مرامي رمزية يسعى الى بثها في فكر المتلقي. وعند محاولتنا تفكيك ومقاربة اوجه الشبه بين القصة التراثية وقصة يحيى حقي فنجد ان شخصية حسين افندي تكون معادلا موضوعيا ومقابلا للسلحفاة التي جاء بها العنوان وان طيرانه تمثل في الانتقال من مرحلة العزلة المتشبث بها الى مرحلة تالية اخرجته او طارت به عما كان يحيط به من اغلال الماضي, وان الجار لحسين افندي هو معادل مقابل للبطتين اللتين نقلتا السلحفاة حسين افندي. والتناص في الفكرة واضح تماما فاذا كانت السلحفاة في كليلة ودمنة لم يكن لها ان تطير الا بوجود العامل المساعد او القائم بدور الوسيط فحسين افندي كذلك لم يكن الانتقال - الطيران الا بمساعد ووسيط وهو جاره الذي يعرف عنه كل شيء. واذا علمنا ان مظاهر بناء القصة العجائبية عند يحيى حقي تأثرها بالكتابين التراثيين فان هذه القصة تتكون من خلال السمات المشتركة الموجودة في الكتابين التراثيين الف ليلة وليلة وكليلة ودمنة. وهي: 1- امتزاج الفعل بين الانسان والحيوان في شخصيتهما ولغتهما. 2- الغاء الفواصل بين ما هو بشري وحيواني. 3- اعتماد السحر والغيب والاقدار والخرافة والحلم وجعلها حوافز منمية للفعل السردي ومشكلة لبطولة مهمة داخل القصة. وبما ان قصص يحيى حقي قصص قصيرة فهي محكومة ببنية الحكاية الواحدة تتوفر بداخلها ما يشبه الحكايات الصغيرة وهي حوافز الدفع الذاتية للسد, اذ يسلم كل حافز نفسه الى الحافز الذي يليه, وتتنامى احداث القصة بنمو فعل الترقب, والتشويق الذي تعتمده الحكاية العجائبية اساسا في جذب المتلقي واسره حتى آخر نقطة. كما ان هناك امرا ليس من الممكن اغفاله وهو: ان الكتابين التراثيين الف ليلة وليلة وكليلة ودمنة قد بنيا على مجموعة من الوظائف توزع البناء الفني من خلالها ويمكن لنا ان نقرأ قصص يحيى حقي باسلوب الوظائف كما هي عند فلاديمير بروب ناقد الشكلانية الروسية والتي استنتجها واستخلصها في كتابه الجدير (مورفولوجيا الحكاية الخرافية) الى ثلاث وظائف هي: 1- عوامل الانهيار. 2- ظهور المنقذ والقوى المساعدة 3- اعادة بناء المملكة المنهارة. وعندما نقارب بين تطابق هذه الوظائف في قصة (السلحفاة تطير) فتكون كالآتي: 1- عوامل انهيار داود افندي وجوده في سجن الماضي وعزلته عن الناس تلك العزلة التي توقعه في المشاكل والازمات بسبب عدم الخلطة والمعرفة. 2- ظهور المنقذ المساعد ل داود افندي هو: صاحب المطبعة الجار الذي يعمل على اخراجه من المأزق الذي الم به. 3- خروج داود افندي من مأزقه جعل عزلته السابقة في حالة انهيار ويحاول داود افندي ان يبني حياته الجديدة على انقاض العزلة السابقة. واقتناص يحيى حقي هذا الاسلوب التوظيفي على بساطته للحكاية التراثية واسغلال عنصر العجائبية في ذلك مرده الى دلالات النقد الاجتماعي والثقافي الذي يرمي اليه الكاتب, وجعل القصة التراثية قناعا مبطنا قدم به رؤيته في نقد الواقع وشخصياته بأسلوب غير مباشر. الامر الذي يوحي بتألم الكاتب على اوضاع بلده وامته التي هي مثل السلحفاة البطيئة في التطور والنهوض والتنمية والثقافة والتكنولوجيا, واذا حاولت التطور وسعت اليه فانها لا تنظر في تراثها الكبير وتستفيد منه وتبني على ركامه, وان كتب التطور لهذه الامة فان هذا التطور الطيران المفاجئ ستعوقه مجموعة من الناس الذين يقدسون الانساق ويرون ان في التقدم هدما للماضي وبهذا يكون مصيرها سقوطا كسقوط السلحفاة التي استعارت لنفسها اجنحة لا تليق بها وسقوطا كسقوط حسين افندي الذي عاش بقية حياته كالميت! فلا هو عاد للماضي ولم يستطع ان يتأقلم مع الحاضر. وفكرة الطيران والسقوط من ابرز الملامح في قصص يحيى حقي الرجل الذي رأى وعاصر مع ابناء جيله طيران الامة الموهوم بالتقدم والتنمية فاعقبه السقوط المريع بالنكبات والنكسات والهزائم على مستويات متعددة. انني لا ازال اتذكر مقولة للدكتور علي الراعي من ان في وسع الرواية العربية المعاصرة ان تترك جانبا الشكل الغربي الذي اتخذته لها فاقامها حتى الآن الى شكل خاص بالعرب ينبع من تراث قصصي زاخر وطويل.