قبل ان نثير مسألة الهوية في البيئة السكنية السعودية المعاصرة لابد لنا ان نشير الى انه وحتى عام 1950م كانت البيئات السكنية في اغلب المدن السعودية تقليدية (اذا استثنينا المدن الجديدة في المنطقة الشرقية والمدن القديمة المجاورة لها) لم يكتنفها التوتر الحاد مع الجديد, حتى في مدينة الرياض لم يحدث التوتر البصري الا في النصف الثاني من القرن العشرين. يؤكد ذلك (وليم فيسي) الذي ذكر ان الامر الجدير بالملاحظة عن الرياض في عام 1930م انه (لم يطرأ عليها الا تغير ضئيل), فقد ظلت على وضعها (كمدينة نجدية تقليدية منذ شاهدها فلبي في 1917-1918م). كما انها لم تتغير كثيرا خلال عقد الثلاثينات حتى مع بناء الابنية الحكومية والقصور الكبيرة مثل قصر المربع الذي شيد عام 1936م, فكما قال (فيسي) رغم نمو الرياض المتزايد خارج اسوارها (فقد استمر استخدام اساليب البناء التقليدية), والملاحظة المهمة هي انه اصبح لزاما ان تتكيف (العمارة المحلية لكي تستوعب تصاميم المباني الحكومية ومساكن الاسرة المالكة على مستوى لم يتخيله في ذلك الوقت البناؤون المحليون), هذا الازدهار لاساليب البناء التقليدية في ذلك الوقت لم يدم طويلا (لانه بالدخول في الخمسينات اذن عصر البناء بالخرسانة). لقد اشار الدكتور صالح الهذلول الى ما لقصر المربع من اهمية بالغة في تأكيد قدرة العمارة التقليدية على التكيف مع الجديد, لقد قال: (ويعتبر مجمع المربع مثلا بارزا يثبت ان عمليات البناء التقليدي ووسائله قادرة على الاستمرار والمواكبة حتى عند ادخال وسائل مواصلات جديدة واقامة مرافق وخدمات حديثة). وربما يأتي مطار الهفوف الذي شيد في منتصف الاربعينات من القرن العشرين ليؤكد الامكانات الكبيرة الكامنة في اساليب البناء التقليدية حيث شيد المطار على النمط التقليدي في منطقة الاحساء وبمواد بناء تقليدية وقام ببنائه بناؤون تقليديون. وبشكل عام نستطيع ان نقول ان هذه المحاولات الجادة لتكييف العمارة التقليدية لاستيعاب وظائف جديدة كانت هي البداية الفعلية للتهجين العفوي الذي حدث في البيئات السكنية في المدن السعودية المختلفة بعد ذلك, ولو كانت اتيحت الفرصة لهذه المحاولات للاستمرار لربما وجدنا عمارتنا المعاصرة امتدادا طبيعيا لعمارتنا القديمة. الا اننا نستطيع ارجاع بداية المسار الزمكاني لآلية المقاومة الثقافية في البيئة السكنية السعودية الى التغيرات العمرانية التي شهدتها المدينة السعودية في الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين حيث يتفق كثير من الباحثين على ان بداية التغير الفعلي في البيئة العمرانية السعودية بدأ مع الاحياء السكنية التي انشأتها ارامكو في الثلاثينات والاربعينات من هذا القرن, فقد انشأت ارامكو في عام 1938م مجمعا سكنيا في الظهران وفي 1939م في رأس تنورة وفي بقيق عام 1944م. تلك البدايات كان لها تأثير عميق على القيم السائدة في البيئة السكنية السعودية التقليدية, لذلك كان لابد ان نبحث عن مدى التساؤل الذي احدثته تلك البدايات في ذهن كل من عاشها. فالصور الجديدة التي اقحمت على البيئة العمرانية السعودية انذاك احدثت صدمة التحول البصري الذي بدأ يعيشها المواطن السعودي, فقد كانت التشكيلات البصرية الجديدة مغايرة لما عهده انسان ذلك العصر, مما ادى الى تحفيز المقاومة الثقافية ممثلة في المرشح الثقافي والمرشح الشخصي. وكما ذكرنا سابقا فان المرشح الثقافي قام بدوره في المحافظة على الذاكرة الجمعية للمجتمع عن طريق السماح للقيم المشتركة للعمل وسيادة البيئة العمرانية في ذلك الوقت. هذا لم يمنع المرشح الشخصي المرتبط بالقيم الثانوية ان يعمل وان يتغلغل في البيئة العمرانية عن طريق انتقاء بعض الصور البصرية التي اختارها البعض ودمجوها مع قيم بصرية تقليدية سائدة. هذه العملية شكلت نوعا من التهجين العفوي (Spontaneous Hybridity) والذي يعني اندماج العناصر المستعارة من الثقافات الاخرى مع الثقافة المحلية بصورة عفوية يتم فيها ترشيح بعض العناصر الجديدة ودمجها في الثقافة المحلية لتعبر عن صورة اجتماعية جديدة. وقد يحدث هذا الدمج بصورة مكثفة حتى يصبح الغالب على الثقافة المحلية وتصبح العناصر الاصلية ثانوية مما يفقد الثقافة المحلية اصالتها. ويؤكد رفائيل مونيو (Rafeal Moneo) على ان (الشكل المعماري يجب ان يدعم تلك المعاني الموجودة في الذاكرة الجماعية والتي عن طريقها يفهم الواحد العمل, ويضعه ضمن عالم الاشياء المعروفة). الا ان التجربة المبكرة ممثلة في الصور والاشكال العمرانية التي جلبتها ارامكو معها كان لها تأثير عميق على مفهومي (القديم) و(الجديد) و(التقليدي) و(الحديث) كمفاهيم متقابلة آخذة في التوتر في ذهن الانسان السعودي في ذلك الوقت. اذ ان تلك الصور لم تخاطب الذاكرة الجماعية بل كانت متناقضة معها مما زاد من حدة التوترات العمرانية في تلك الحقبة. فالتفاعل الذي مارسه كل مجتمع محلي, داخل المجتمع السعودي الكبير, مع الجديد انتج هجينا بصريا يحمل صفات القديم الذي كان يميز المجتمع المحلي ويحدد هويته كما يحمل تشكيلات بصرية حديثة. هذا المنتج المهجن كان نتيجة للمقاومة الثقافية التي مارسها افراد وجماعات المجتمعات المحلية بصورة لا شعورية للجديد مما يجعلنا قادرين وبشيء من الاطمئنان ان نقول ان البيئة المهجنة في ذلك الوقت تقليدية اكثر منها حديثة. اي ان العناصر المستعارة ابدا لم تؤثر على الصورة البصرية والفراغية للمسكن والبيئة العمرانية ككل, بل على العكس من ذلك فقد خضعت هذه العناصر لعمليات تهذيب مستمرة حتى اصبحت جزءا من الشكل العام السائد في البيئة السكنية في تلك الفترة. ولان (المعنى يصنعه الناس وليس كامنا في الاشياء ذاتها) لذلك نجد التضاد البصري والفراغي اخذ في التزايد مع النقلة الحادة التي صاحبت بناء المجمع السكني الذي انشأته ارامكو لكبار موظفيها والحي السكني الذي انشأه موظفو ارامكو السعوديون في الاربعينات من هذا القرن بالقرب من بعضهما البعض مما زاد في حدة التوتر الثقافي وجعل مفاهيم جديدة على المنطقة مثل (الهوية) ان تظهر للوجود وتحتل مكانا مهما في طرح المثقفين ودارسي البيئة العمرانية خصوصا في اطارها الثقافي. اي ان المواجهة الثقافية التي حدثت في تلك الفترة زادت من درجة الوعي بالذات وحفزت مفهوم الأنا والآخر, كما انها اشعلت المقاومة الثقافية. يتضح ذلك من الملاحظة التي ذكرها الانثروبولوجي الامريكي سولون كيمبال (Solon Kimball) الذي زار الظهران في بداية الخمسينات واجرى دراسة مقانة بين المجمع السكني الذي انشأته ارامكو لكبار موظفيها والحي السكني الذي انشأه السعوديون في تلك الفترة, لقد اكد: (انه لا توجد اي صعوبة لدى اي غربي ان يميز المجمع السكني لكبار الموظفين كحي يحمل تقاليد الجنوب الغربي الامركي في تخطيط المدن. انها منطقة تحتلها المساكن ذات الطابق الواحد.. كل مسكن محاط بساحة خضراء صغيرة عادة ما تحاط بسياج من الشجيرات). هذه التجربة الغريبة على البيئة المحلية في المملكة كانت تناقض كل الصور البصرية والفراغية في البيئات التقليدية السعودية خصوصا المدن التقليدية القريبة من الظهران (القطيفوالهفوف). على النقيض من هذه التجربة بدأ يظهر المجمع السعودي محاذيا له ومعبرا عن مقاومة شديدة للصور البصرية والفراغية المستوردة. عندما التحق العاملون السعوديون والخليجيون للعمل في شركة ارامكو سارعوا في انشاء مساكنهم في الاراضي الخالية المحاذية لمجمع كبار الموظفين, مستخدمين في ذلك المواد المحلية المتوفرة كما انهم اعادوا الشكل الفراغي للحي السكني القديم بطرقه المتعرجة والضيقة وحوائط مساكنه المصمتة. لقد ادى هذا الى ظهور (مجمع سكني مبني من الطوب الطيني والاخشاب على الطريقة التقلدية وبأسلوب مريح). (كيمبال) لاحظ هذا الحي السكني ووصفه بانه غير مخطط كما انه يعتبر محاولة من قبل العرب لتأسيس بيئة اجتماعية مجربة. كما انه لاحظ الاصرار الذي ابداه الساكنون للتعبير عن هويتهم عندما قال ان هذا الحي يعبر عن (بزوغ حياة اجتماعية محلية). (an emerging indigenous community life) ذلك ان الاشكال العمرانية تصبح ذات معنى عندما تحتوي على المعلومات التي يستطيع الناس فهمها حتى اذا حان وقت ترشيح وتفسير هذه المعلومات يقوم الشكل العمراني بارشاد وتوجيه استجابة الناس. وهذا ما لم يحققه حي ارامكو الجديد في ذلك الوقت حيث استجاب السكان السعوديون للاشكال المختزنة في اذهانهم وحاولوا اعادة انتاجها في حيهم الجديد. انه من الضرور ان نوضح ان العقدين اللذين تبعا تلك التجربة شهدا توترا ثقافيا اكثر عمقا واكثر تأثيرا على ذهن الافراد والجماعات المحلية على ما يحمله من تجارب عمرانية سابقة مختزنة في ذاكرته الجمعية. هذا ادى الى اعادة انتاج البيئة العمرانية التقليدية في تلك الفترة مطعمة بعناصر بصرية جديدة ملفتة للنظر كالبلكونة والبوابة الخرسانية ذات المظلة مما يعطي تصورا اولا: ان التأثر بالجديد كان سطحيا ومن الخارج في الغالب مما يجعلنا نخلص الىانه اكثر المساكن التي انتجت في الاربعينات والخمسينات في المملكة تعتبر امتدادا للبيئة التقليدية. وثانيا: ان هذا التغير يعتبر البداية لسلسلة كبيرة ومتصلة لتحولات قادمة في البيئة العمرانية السعودية. وحتى نستطيع فهم موقف الانسان المحلي من الجديد نقف في تلك الفترة عند مثالين مهمين جدا. الاول: في مصطلح (بيت عربي) وهو في مدينة الهفوف كما في مدن كثيرة في المملكة يمثل المسكن التقليدي او المسكن الذي انشئ على نمط المسكن التقليدي في الاربعينات والخمسينات من هذا القرن. هذه التسمية في حقيقة الامر محاولة صريحة للمحافظة على الهوية عن طريق التفريق بين المسكن العربي المرتبط بالانسان والمكان والمسكن الجديد الذي ليس له اسم الا مجرد انه جديد. فلم يكن هذا الاسم موجودا قبل ظهور الصور الجديدة للمسكن مما يجعلنا نؤكد ان اول بوادر المقاومة الثقافية في البيئة السكنية كانت عبر التسمية لما لها من قيمة رمزية في اذهان الناس. هذا ما اكده هبراكن (Habraken) عندما قال (ان الاسماء ببساطة تفسر الشكل في المحيط الذي يقع فيه). ومسمى (مسكن عربي) يعكس القيمة الشكلية والرمزية التي اصر افراد المجتمع السعودي على المحافظة عليها في ذلك الوقت. اما المثال الآخر فهو الاتفاق الجماعي الذي ابداه سكان الاحياء القديمة في مدينة الرياض في تلك الفترة. فالصور البصرية الحديثة التي صاحبت انشاء الناصرية وحي الملز في الخمسينات الميلادية ادت الى ظهور مسمى (الرياض الجديدة) التي تختلف في اذهان الناس عن (الرياض القديمة). تلك الصور تركت اثرا بالغا لكنه مازال خارجيا على ساكني الاحياء القديمة مما حفز هؤلاء على تغيير الشكل الخارجي لمساكنهم الطينية باضافة طبقة اسمنتية خارجية (لياسة) وكرانيش ونهايات خرسانية توحي للرائي بشكل الخرسانة الانيق. كما اضافوا بوابات من الحديد المشغول بمظلات خرسانية بدلا من الابواب الخشبية المزخرفة. هذه التغييرات تعد ظاهرة عامة في احياء الرياض القديمة كما انها تعبر عن صراع الصور الذي سيطر على قرارات السكان المحليين في تلك الفترة. فانسان البيئة التقليدية لم يكن لديه اي استعداد للتنازل عن التوليفة الاجتماعية والفراغية التي كان يعيشها الا انه في نفس الوقت كانت لديه رغبة ملحة ان يتماشى مع الصور الحديثة, ان يكون (حديث) ولو شكلا, خصوصا وان ساكني الحي السكني الجديد (الملز) هم من موظفي الدولة المتعلمين في وقت كان المجتمع السعودي مازال يخطو خطواته الاولى نحو التعليم النظامي الشامل. اما في منطقة الاحساء فقد احدث سكان الاحياء القديمة تغيرات شكلية من الخارج طالت البوابات المزخرفة لمساكنهم. رغم ان التغيرات تلك لم تكن جميلة الا ان الرغبة في عكس صورة حديثة للمساكن كانت اكبر من الابقاء على العنصر الجمالي الذي كانت تتمتع به البوابة القديمة. فالمظلة الخرسانية لبوابة المسكن الحديث يبدو انه كان لها بريق اثر على القرار الجمعي للسكان المحليين في مدن كثيرة في المملكة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة للانبهار والثقة بالمواد الجديدة مثل الحديد المشغول والخرسانة. هذا التحول البصري يجعلنا قادرين على القول انه كان هناك تحول في ماهية الهوية البصرية للبيئة العمرانية السعودية. فالمفردات البصرية القديمة لم تعد قادرة على عكس الصورة التي كان يرغبها الناس لذلك حدث هذا التغير الخارجي للمسكن القائم الا اننا كذلك نستطيع ان نجزم ان الساكن المحلي لم يكن مستعدا ابدا لتغيير نمط حياته لذلك ابقى الصيغ الفراغية للحي والمسكن القديم على حالهما دون تغيير. د. مشاري بن عبدالله النعيم استاذ النقد المعماري المشارك - جامعة الملك فيصل مساكن في مدينة الهفوف في بداية التحول نحو الحديث