صوت تكسر أوراق الشجر الجاف لوقع أقدم في الباحة الخارجية!! أقدام ليست مستعجلة، ولكنها ليست بطيئة ايضا. ليست لطفل، ولا تفرقع كحذاء امرأة، تحمل ثبات وتصميم من يريد الوصول الى هدف محدد ومعروف مسبقا. نادر وثمين هو الصمت لدى (فضة)، هو خوذة حنون تلتئم برأسها، رداء يشرنقها لتلتقي تلك المرأة في الداخل.. داخل شرنقة الصمت.. صمتها قطعة مغناطيس تجمع من خلاله شظاياها التي تناثرت بين غرفات منازلهم.. صخب أخواتها.. قرقعة التلفاز.. تذمر أمها الصامت المنكسر.. حنين امرأة ابيها السورية الدائم الى ساحل (طرطوس) والمناقيش بالزعتر. في غرفة نوم البنات، وعندما تشرع في حل واجباتها المدرسية، تعطي ظهرها للمنزل وتستقبل الحائط، وتستغرق في عالم رطب وهش، يجعل ملامح وجهها تلين، فترتدي خوذتها وتستغرق في حل واجباتها، ورصد الرسومات التي يصنعها الطلاء المتقشر فوق الحائط، وعندها ربما تلتقي تلك المرأة المصنوعة من مادة غبارية لامعة. لربما تكون غبارا لنجمة اندثرت وصنعت من خلاصة بريقها هذه المرأة التي تباغت (فضة) كثيرا ولاسيما في تلك اللحظة التي تضل عنها روحها، وعندما تعود تكون قد تأبطت هذه المرأة وبريق المجرات. كثيرا ما يباغتها شعور بانها يجب ان تكون في مكان آخر تؤدي شيئا آخر.. لا تدري ما هو او كيف؟؟ الضوضاء تنهكها، تتغذى على ثمار روحها، تخفي عنها خريطة ذلك المكان الذي تقبع فيه المرأة.... مرأة غبار النجوم، وتظل نافرة ونائية في الداخل تريد ان تطل برأسها لكن الضوضاء تمنعها. احيانا كثيرة تشاهدها في المرآة خلف تقاطيعها.. محمومة وشهوانية، ولكنها تنسحب بسرعة وتنزلق الى مغاور مجهولة حالما يباغتها زعيق امها وإخوتها الصغار. مين..؟ ولكن من سيأتي الان الى مسكنهم؟؟ من سيدخل في هذه الساعة ولم تسمع صوت الباب الخارجي لمنزلهم؟ منزلهم واحدة من الفيلات التي يهبها الجيش لضباطه، متشابهة وعملية، اما هي فتراها كأبراج الحمام. تتكون من طابقين: الاول لها ولأمها واخواتها والطابق العلوي لزوجة أبيها السورية. والأب يتقافز فوق الدرج صعودا ونزولا، وعندما يسكر في نهاية الاسبوع ينام وحيدا في المجلس الخارجي. حينما يخرج الجميع الى التنزه، او يتناثرون تحت شجر إحدى الحدائق العامة، ترفض (فضة) دوما ان ترافقهم، هي فرصتها الوحيدة لمخاتلة غبارها المفضض المغوي.. هناك، تريد ان تتقصى ملامحها بجسارة، دون ان يباغتها صوت متلصص يجعل امرأة غبار النجوم تفر وتختفي في الداخل أياما مديدة. تتسلل وإياها الى الطابق العلوي وترتديان قميص نوم السورية وقبقابها الخشبي المغناج، ثم تنحدران الى الاسفل، وتهاتفان (علي) الذي يطارد (باص) الفتيات، ويكتب رقم هاتفه على لوحة كبيرة ويرفعه ليراه الجميع، وحينما تسمعان صوته تغلقان سماعة الهاتف بخجل واضطراب، وفي اتصال اخير ارسلت المرأة النجمية قبلة طويلة فرقعت في سماعة الهتف ثم تضاحكتا برعونة وصخب دون ان تقولا حرفا واحدا اتجهتا الى المطبخ الخارجي وشرعتا في صناعة بطاطس مقلية لتستمتعا بالتهامها مع الشطة الحارة. مين..؟ المطبخ في الباحة الخارجية، يلتصق بسور الفيلا، يفصله عن المنزل ممر طويل مضاء ببعض المصابيح التي تكسر معظمها نتيجة لعب الكرة المتصل في ذلك الممر. مين..؟ وجعلت نبرة صوتها هذه المرة أشد حدة ووضوحا، وتساءلت وهي تتطلع الى عيني المرأة الغبارية، التي كانت بدورها قد اطمأنت تماما لخلو المكان، وغدت تقف الى جانبها في المطبخ، هل تراه أخي (محمد) قد نسي شيئا وهم في الحديقة وعاد لجلبه؟؟ لانهم حينما يذهبون الى حديقة (الملز) لا يعودون الا في ساعة متأخرة من الليل؟؟ وضعت السكين التي كانت تقطع بها (البطاطس) جانبا، واتجهت الى باب المطبخ لتطل.. كان الممر مظلما نوعا ما ولا يضيئه سوى مصباح المدخل الرئيسي المتواري عنه، وصالة الطابق العلوي المضاءة. وبالكاد استبانت تفاصيل الممر لانه من خلف الزاوية البعيدة التي توضع اسفلها أنابيب الغاز، من منتصفها بالتحديد رأت كتلة سوداء مدورة تبرز ببطء وحرص شديد من خلف زاوية الجدار، في تلك اللحظة تماما التي كادت فيها ان تنسحب متنهدة بارتياح وترجع اصوات الاقدام الى هلوسات وتخيلات. تسمرت لوهلة.. هذا الخرس الذي توقعت ان تقول بعده: آه.. فلان.. لقد ارعبتني، ظننتك حراميا، ولكنها لم تقل، فالكرة السوداء المدورة عادت لتختفي فجأة..!! يفصلها عن باب المنزل الداخلي أربع خطوات، هل تجري الى هناك وتقفل الباب من الداخل ام تعود لتحضر السكين؟؟ وفي تلك اللحظة عادت الكرة لتظهر ببطء وحذر وقد تبينت تحتها، وجها مثلثا نحيفا. وزعق شيء في فؤادها بهلع، ربما هذا هو الحرامي.. هذا الذي يسمونه الحرامي، وهذا الذي تتداول النسوة قصصه في اجتماعاتهن، كانت تظنه كالموت لن يمر من هنا أبدا. ولا تذكر كيف قطعت الخطوات الاربع الى الباب الداخلي لكنها هجست بان المرأة النجمية هي التي رفعتها من تحت إبطيها بخفة وأسرعت بها الى الداخل. وتسمم الهواء من حولها، تحول الى كتلة حديدية مزرقة، وظلت للحظات طويلة تحاول ان تغلق الباب ولكن لم تسعفها يداها المرتجفتان، أحسته من خلفها، ومن يمينها، وخشيت ان تدخل الكتلة السوداء المدورة من طاقة الحمام التي لا تمتلك شباكا حديديا يغطيها أو من الباب الأمامي، فهرولت اليه لتتأكد من اقفاله وهي ترتجف كأنها تحت نوبة صرع شديدة.. ولم تنس بوابة المقدمة، ولكنها لم تجسر على اقفالها. ------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ هذه البوابة نفسها التي وقفت خلفها بعد عام بالضبط، ترفع عينيها بصعوبة لتلتقي عيناها بوجه ابيها، بينما جفونه السفلية ازدادت انتفاخا، وتكثفت الكتلة ما بين حاجبيه، نتيجة لمزاج سيئ بعد سهرة البارحة، كان يحمل في يده مدخنة ذهبية صغيرة، ويقف قلقا وكأنه يؤدي مهمة يود الانتهاء منها سريعا. (الدخون) الذي يخرج من المدخنة كان كثيفا ورخيصا، وكانت تحس بالعرق الكثيف في قدميها، خافت ان تخطو فتتعثر في صندلها الابيض ذي (السيور) والكعب العالي. ولم يكن المشهد مضببا أمامها بفعل البخور، بل بفعل (التول) الأبيض والطرحة التي تغرس مخالبها في رأسها كنمرة كاسرة!! مين....؟؟؟ لم يطلب عريسها الرؤية الشرعية!! لم يجرؤ على هذا ربما...، قادم من الجنوب العام الماضي، ويعمل في البريد اذا لابد انه يشبه عمها (مسفر). مين....؟؟ في تلك الفترة القصيرة التي تفصل بين قدوم مهرها ويوم الزفاف حظيت ببعض الامتيازات، كان باستطاعتها ان تخرج الى السوق مرتين في اليوم، وان تتمنع عن اعداد العشاء، وان تغلق باب الغرفة دون اخواتها لتجرب ثيابها الجديدة التي لم يكن هناك الكثير منها، فقد حرص أبوها على الحد الأدنى من المشتريات، لانه سيدفع مهرها الى خطيبة اخيها الذي سيتزوج في عطلة الربيع القادم، ولذا وللسبب نفسه كان الاحتفال بالزفاف بسيطا ضيقا في منزلهم بإحدى فلل الضباط: ذبيحة، وخمس نساء من اهل العريس فقط. في يدها باقة ورد لا تدري من الذي زرعها داخل يدها، قد تكون زوجة ابيها السورية، ولكن الورد بدا متورما مكتوما، فتشهت في تلك اللحظة جدار غرفتها وقشور الطلاء التي اكتشفت فوقها مؤخرا اميرة شقراء بقبعة من مخمل، تحمل مظلة دانتيل وتتنزه بجانب بحيرة، وكانت المرأة النجمية تسترق النظر اليها بين الفينة والاخرى واستغربت ذلك الكم الوافر من السخرية في نظراتها، وتساءلت في اعماقها هل ابدو حمقاء وساذجة في ثوبي وطرحتي البيضاء؟؟!! ترتجف. ما من باب ستقفله ويرد عنها القادم ابوها امامها يزمزم، واحدى أخوات العريس رفضت ان يكون هناك اغان حتى لا يصب في آذانهم معدن مصهور حار في الآخرة!! النسوة يهدرن في الداخل وهي واقفة هناك، وامها تحاول ان ترد الصبية الصغار عن ثوبها الابيض تقف امام الباب الذي يفصل داخل البيت عن البوابة الامامية، في تلك النقطة التي ستمتد يد سريعة وحاذقة في اية لحظة الان وتقطع جسر عودتها للداخل الى الأبد. مين...؟؟ جلبة عند الباب تبينت فيها ضحكة عمها مسفر، وابتدأ الهواء يتسمم بحديد أزرق..، التفت أبوها اليها في نظرة اخيرة ثم تقدم نحو الباب مشرعا يده، لم تكن تحب جسم ابيها وتكوينه، كانت ترى فيه بعض القمأة ولاسيما عندما يتقافز على الدرج ما بين الطابقين، وعلى الرغم من هذا عندما تلقفه أبوها ليسلم عليه شب الرجل على اطراف قدميه فقد كان اقصر من ابيها!! ولم يكن رأسا مستديرا تحت وجه مثلث، كان كل شيء مستديرا: الوجه والعينان، والانف بينهما حاد وأقنى كطائرة الكونكورد. جلبة وضوضاء. تزاحمت النساء خلفها ليحظين بلمحة خاطفة من العريس، توقفت عن الصياح مين...؟؟ ونكست عينيها ولم تعد تتأمله. تماسكت وحاولت ان تأخذ نفسا من الهواء المزرق حولها، قالت ببطء شديد: لدي الكثير من الوقت لأتأمله، وربما سيكون اجمل تحت مساقط ضوء مختلفة. وبعد أشهر أخذت تنتحب بين يدي أمها بصوت منخفض خشية ان يسمعها أبوها: لا أريده... أريد العودة لكم. قالت أمها ملتاعة: كيف تقولين انك لا تريدينه ولم تنجبي طفلك الاول بعد.. انتظري ان يأتي الطفل الاول، فانا لم احب اباك الا بعد اخيك (محمد)..!!! فقط انتظري.. واخذت تنتظر.. ولكن هناك خواء مفجع في الداخل... ورياح ووحشة..، وكانت تعلم ان هذا بسبب هجران المرأة التي من غبار المجرات.. تركتها بجسارة وبلا مبالاة.. وغدت تشك في أنها ذهبت الى أختها عائشة، فهي تمضي اوقاتا طويلة امام المرآة، وترفض مرافقتهم الى الحدائق، بل تكتفي بحدائق البهجة والانس التي تزرعها تحت اجفانها تلك المرأة الشهوانية اللعوب، والهالة المتوهجة التي غدت تحيط بعائشة عندما تضحك وتكلم من حولها وتنثر الغبار اللامع على الأثاث وفي الساحات الخارجية: غادر جميع هذا (فضة) وأصبحت فضة.. خضراء صدئة، ولم تعد تبالي بالسؤال... مين؟؟؟؟ من مجموعتها الجديدة (الترياق)