لعله من المفيد حقا أن نضع تصوراتنا حول واقع التجمعات السكانية وسط المدينة على أنها تجمعات ذات نسيج اجتماعي غاية في التعقيد وهذا يتطلب تعاملا بنفس الدرجة من التعقيد. أحد الأفكار الرئيسية التي يجب أن ينظر لها بعين الاعتبار هي إمكانية إبقاء هذا النسيج المعقد كما هو والتفكير في تطويره دون الحاجة إلى تفكيكه ونقله من مكانه. وهذا بالتأكيد يحتاج منا الكثير من العمل والدراسة، كما أنه يحتاج لفهم البيئة المراد تطويرها ومدى صلاحيتها للتطوير. إن المدينة السعودية بوضعها الحالي لا تحتاج للكثير من التمدد وزيادة الرقعة العمرانية بقدر ما تحتاج إلى التعامل مع الكثير من المشاكل التي خلفتها التنمية العمرانية السريعة التي مرت عليها ولم تمكنها من الالتفات للوراء وتدارك ما قد تكون خلفته تلك التنمية. بالتأكيد أن هناك الكثير مما يمكن عمله الآن بعد أن هدأت وتيرة النمو وأصبح هناك أجهزة قادرة على رصد التأثير الذي يمكن أن تتركه التنمية على المجتمع. ربما تكون أحدى القضايا التي تستحق منا التفكير هي إعادة الحياة لوسط المدينة خصوصا وأنها قضية مقلقة وتجابه صعوبات كبيرة لحلها. فلو نظرنا لوسط المدينة سوف نجد أن أغلب التجمعات السكانية التي تقطنه تعيش حالة حدودية بين الفقر والكفاف مع وجود مناطق تقع تحت خط الفقر، مما يجعل مسألة التفكير جديا في المحافظة على تنمية تلك المناطق أمرا مهما حتى لا تفرز تجمعات سكنية فقيرة جدا في المستقبل. على هذا الأساس فان وضع خطة هيكلية لإعادة تأهيل التكوين العمراني لوسط المدن السعودية وبعث الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيه سوف يؤدي إلى المحافظة على النسيج الاجتماعي. لذلك فإنه من الممكن وضع تصور لإمكانية تطوير لوسط المدينة السعودية الذي يعاني مشاكل تدهور في البيئة السكنية ونقص في الموارد الاقتصادية لتشجيع السكان على البقاء وعدم الانتقال. فمثلا حي الرفعة الشمالية في مدينة الهفوف يشكل نسيجا عمرانيا واجتماعيا متميزا جدا إلا أن هذا الحي يعاني معاناة كبيرة نتيجة الكثافة العالية ونقص الخدمات وإهمال البلدية. بالتأكيد أن هذا الحي مهم بالنسبة للمدينة كونه يمثل المنطقة الوحيدة المتبقية التي تسكنها أسر سعودية وبقاء تلك الأسر في مكانها يعني بالدرجة الأولى ضمان الحياة لوسط المدينة حتى لا تتحول إلى مدينة أشباح كما حدث في الأحياء الأخرى أو حتى لا تتحول إلى مناطق تسكنها العمالة الوافدة كما حدث في أحياء أخرى. إذا يجب أن نسعى كي نبقي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية لهذا الحي وهذه مهمة بلدية الاحساء. قبل عدة أيام كنا نتحدث في مؤسسة الأمير عبد الله لوالديه للإسكان التنموي عن إمكانية تأهيل التجمعات السكانية الفقيرة التي غالبا ما تقع وسط المدن والقرى بدلا من التفكير في بناء مساكن جديدة لهم وزحزحتهم من أماكنهم والذي يعني كذلك تفكيك نسيجهم الاجتماعي. ومع صعوبة هذا العمل إلا أنه كان هناك إصرار على البدء في خطوة عملية في هذا الاتجاه، فقد لمس المتخصصون في المؤسسة أن كثيرا من السكان لديهم رغبة في البقاء في اماكنهم وتطوير مساكنهم بدلا من الانتقال لمساكن جديدة قد تسبب لهم مشاكل اجتماعية واقتصادية هم في غنى عنها. لقد كانت هناك رغبة في التعامل مع جميع القضايا بانفتاح ومحاولة تطوير حل مناسب لكل قضية دون التركيز على بناء مساكن (جديدة) لأنه من خبرتنا مع مشاريع الإسكان غالبا ما تظهر مشاكل في الأحياء الجديدة بعد سكنها تؤدي إلى تدهور البيئة السكنية وتتحول إلى عامل سلب بدلا من أن تكون عامل إيجاب. ولعل أهم تلك المشاكل هي وصم الحي السكني بأنه حي للفقراء مما يجعل الساكنين في حالة شعور دائم بالنقص، كما أن الحي يتحول إلى محطة انتقالية يتوق الساكنون فيه إلى الرحيل. هذا بالإضافة إلى أن المشاكل الأخلاقية والأمنية غالبا ما تتفاقم في مثل هذه الأحياء. ونحن هنا لا ندعي أن كل مشاريع الإسكان ستؤول إلى الفشل ولكن لكل مشروع له طبيعته ولكل بيئة خصوصيتها. من هذا المنطلق حاولنا أن نفكر في إيجاد بدائل قد تكون أكثر ملاءمة لوضع بعض القرى، من هذه البدائل إعادة تأهيل المناطق الفقيرةRe-habilitation of poor areas أو تطويرها والارتقاء بها Upgrading and developing بما يتناسب مع وضعها الثقافي والبيئي والإبقاء على النسيج الاجتماعي القائم وهي فكرة لها أهميتها القصوى وإيجابياتها الكبيرة لإنجاح إي مشروع تنموي في المناطق الفقيرة والمحدودة الدخل. ربما تكون أحد الأمثلة الناجحة في العالم العربي هي بلدة أصيلة المغربية التي كانت عبارة عن قرية فقيرة لا تملك مقومات الحياة، إلا أنها و بعد إعادة تأهيلها أصبحت من أهم المراكز الثقافية ويعقد فيها الآن مهرجان سنوي عالمي. كما أن عددا من مشاريع الإحياء لوسط المدن الإيرانية فاز بجائزة الإغا خان الأخيرة والتي وزعت في مدينة حلب السورية (عام 2001) وقد جاء في قرار لجنة التحكيم أن هذه المشاريع ساعدت في تعزيز إحياء المراكز الحضرية بصورة مستدامة ضمن الإطار الأوسع للتنمية وإنقاذ الإنشاءات والنماذج التقليدية المهمة من التعرض للتدهور والهدم. أن فكرة إعادة تأهيل المناطق القديمة وبعث الحياة فيها من جديد تعني ببساطة هذا النجاح الذي يمكن ان تحققه البيئات العمرانية في الاعتماد على مواردها الذاتية بحيث تتحول بيئة السكن إلى بيئة منتجة. لعله من الإنصاف أن نتحدث عن البيئات السكنية وسط المدن والقرى السعودية (خصوصا في المنطقة الشرقية) التي تتميز بمميزات واضحة تشجعنا على تبني فكرة إعادة التأهيل للبيئة العمرانية، فتلك البيئات تظهر على شكل فئات متفاوتة من حيث الحاجة، حيث إن المنطقة بطبيعة تكوينها تفرض نوعا من التعامل ربما يختلف كثيرا عن المناطق الأخرى. فعلى سبيل المثال لا يوجد مناطق مبعثرة يمكن رصد الفقر فيها بشكل فردي أو حتى تجمع سكاني صغير يمكن الشعور فيه بحالة السكان العامة فكل التجمعات السكنية ذات كثافات سكانية عالية تجعل من فكرة إعادة التأهيل ناجحة لأنها سيكون لها تأثير على كامل البيئة العمرانية كما أنها ستحافظ على البنية العمرانية والاجتماعية داخل البيئة السكنية ذات النسيج المتضام الذي يصعب تحريكه أو تفكيكه وإعادة تركيبه. فمن خلال التجربة العمرانية في المملكة خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان للحراك السكاني داخل المدينة نتيجة لتفكيك البيئات التقليدية تأثير سلبي على البيئة العمرانية والاجتماعية داخل المدينة ما زلنا نعاني منها حتى هذه اللحظة (مع أن السكان لم يكونوا من الفقراء) فقد برزت مظاهر اجتماعية سلبية لم تجعل من البيئات السكنية مستقرة اجتماعيا حتى يومنا هذا. لذلك فإن المحافظة على البيئات السكنية والاجتماعية القائمة ومحاولة تطويرها يعتبر مطلبا مهما يجب أن نسعى له في تلك البيئات نتيجة للتركيبة الاجتماعية المترابطة والتي لا يمكن أن يستغني عنها السكان في حياتهم اليومية. إن أي مقترحات حول إمكانية التعامل مع تجمعات سكنية متضامة وذات بنى ثقافية واجتماعية تكاملية وترابطية سوف نجد أنه من الأفضل التفكير بعمق في الكيفية التي يجب أن نعمل بها.. وهي كيفية يتخللها الكثير من العوائق والتعقيدات كون الجماعات المستهدفة تشكل شبكات واسعة نسبيا من التعاون والتضامن والتلاؤم القائم على علاقات القرابة والجوار والصداقة الممتدة. هذه الجماعات تحرص على هذه الشبكات الواسعة من التكافل كوسيلة فعالة لمواجهة الظروف الخارجية الصعبة الخالية من الضمان والتنبؤية. ويكون التواصل والتعاون في صيغة الأخذ والعطاء الذي يوفر قدرا ما من الاستقرار والضمان الاقتصادي يتعذر الحصول عليه من خلال المجتمع الخارجي. على كل حال هذا يجعل من مقترحاتنا تتسم بالحذر والحيطة. إذ إنه في البداية يجب أن نحدد النطاق المكاني كنقطة انطلاق لعملية إعادة التأهيل كون وسط المدينة غالبا يشكل بيئة عمرانية قديمة وتتركز فيها أغلب المساكن الرديئة. كما أننا نستطيع حصر نطاق العمل بوضوح. على هذا الأساس يمكننا، وبالاتفاق مع السكان القيام بعملية التأهيل التي يمكن أن تأخذ الخطوات التالية: * إعداد مخطط متكامل لوسط المدينة أو القرية يوضح فيه المساكن التي بحاجة إلى إعادة بناء والمساكن التي بحاجة إلى ترميم شامل والمساكن التي بحاجة إلى ترميم بسيط. كما يجب أن يحتوي المخطط على جميع الخدمات والبنى التحتية والمرافق العامة المطلوبة لإعادة الحياة لوسط القرية (ويمكن إعطاء المشروع لمقاول واحد بعد الانتهاء من كافة الدراسات). * يمكن من خلال إعادة التأهيل تطوير تجمعات سكنية صغيرة كجزء من عملية ملء الفراغات infill process التي سوف تحدثها عملية إعادة البناء للمساكن (هناك مساكن كبيرة جدا وفي رأيي أن إعادة التأهيل يجب أن تشمل إعادة تخطيط قلب القرية بحيث يتم تقطيع المساكن القائمة بالاتفاق مع السكان كنوع من التعويض بإعادة بناء المسكن بالكامل). أما من الناحية الاجتماعية فإن الخطوة الرئيسية التي يمكن القيام بها لإعادة تأهيل المناطق القديمة وسط المدينة هي تحديد جميع الأسر المحتاجة والتأكد من ملكية المساكن والاتفاق مع أصحابها على إعادة بناء بعضها وتحسين البعض الآخر حسب حالة المساكن نفسها. هذه الخطوة رئيسية ومهمة لإعادة التأهيل وهذا يتطلب مسوحا ميدانية فيزيائية للبيئة السكنية وإعداد دراسة كاملة عن حالة المباني وعمل مخطط عام وشامل للنطاق المكاني المستهدف. هذا سوف يساعدنا على عمل ما نسميه بملء الفراغات داخل القرية Infill process وهي عملية مهمة مرتبطة بإعادة تخطيط القرية ككل. جميع هذه الخطوات يجب أن تنفذ من خلال إطار عام يتفق عليه مع السكان. كما أن هناك إمكانية كبيرة أن يكون العمل تكامليا بين الجهة المسؤولة عن إعادة التأهيل وبين السكان وهذا التكامل قد يشمل مشاركة السكان في عملية الترميم وعملية البناء نفسها، خصوصا أن كثير من السكان لا يجدون عملا (هناك تجارب متعددة في الإسكان أفرزت عمالا مهرة في البناء من السكان المستفيدين). أما على صعيد نطاق التنمية الاقتصادية فأن أي عملية تطوير وإعادة تأهيل تحتاج إلى التفكير بعمق في الجوانب الاقتصادية التي تكفل بقاء السكان في حالة بعيدة عن شبح الفقر ومن ثم تردي البيئة السكنية وتفاقم المشاكل الاجتماعية فيها. لذلك فان وضع تصور تنموي للمنطقة المستهدفة يكفل للسكان العمل سيكون أحد أهم عامل النجاح إعادة التأهيل. فإذا كان تحسين السكن سوف يرتقي بالبيئة المعاشة فأن ضمان استمرار تحسن هذه البيئة يحتاج إلى مورد اقتصادي للسكان. حاجة ملحة لاحياء قلب سيهات حيوية القرى الصغيرة بشمال انجلترا