ان القارئ لديوان دخان الحرف للشاعر صالح العليان والذي صدر العام الماضي عن دار الرسالة للنشر سوف يخرج بانطباعات متعددة تعكس الشخصية الحقيقة لشاعرنا والتي ما فتئ يؤكد في قصائده على أنها تركز على العمق الداخلي وليس على الأبعاد الخارجية أو الشكلية: ==1== في ظاهري رجل عنيد واثق==0== ==0== في داخلي روح الوديع العابد إن كانت الأعداد تجبر بعضها==0== ==0== فالنصف عندي طامح للواحد==2== هذه الانطباعات تعكس الروح الحقيقة لشاعرنا كما أسلفت وهي لم تأت بسبب اغراقه في الوصف وابتذاله الصريح فحسب , بل لتنوع المعاني التي يعالجها في شعره بشكل عام وفي هذا الديوان على وجه الخصوص مصورا تلك المعاني غفي كل قصيدة من قصائده من زاوية مختلفة تمثل فيه هذه القصائد لبنات عدة تنشيء بناء لا يستهان به تعبر عن تجارب الشاعر المملوءة بالضجر: ==1== فما حال من عاش نصف الحياة==0== ==0== وخالط كل الدقائق هول الضجر==2== البعد الزمني لقصائد شاعرنا أقل من عقدين , تشمل عنفوان الشباب وصلابة الرجولة وتجدد الإبداع , تأخذ فيه القصائد أبعادا مكانية مختلفة , تثري فيها التجاري ويعالج الشاعر فيها قضايا عدة تترواح ما بين شخصية بحته ناطقة وهو الديوان الثاني له , وذلك رغم وجود قصائد رائعة أخرى لم يتضمنها هذا الديوان كتبت في نفس الفترة الزمنية لهذه القصائد , الا أن هذا أولا وأخيرا يعود الى الشاعر الذي ربما وجد قاسما مشتركا في هذه القصائد لا نعرفه نحن جعله يجمعهما في ديوان واحد. تجلى صورة المعاناة والأسى في كثير من القصائد رغم وجود شيء من الرومنطيقية التي لا تمثل عنصرا رئيسا فيها , ناهيك عن الحس المرهف وطغيان الاختلاجات الداخلية الذاتية وحضور الشخصية في كثير من المواقف التي لا يقدمها شاعرنا بشكل مباشر في كثير من الأحيان , بل يترك للقارئ فرصة التصور وقراءة ما بين السطور التي لا يمكنها حجز خيبة الشاعر المريرة وحزنه العريض عن عيني القارئ: كفكفي دمعي بكائي فاق من همي بكاء كان ممنوحا لزرقاء اليمامة وفي قصيدة عمودية أخرى: ==1== أضم على لوعتي أضلعي==0== ==0== وأحبس في مقلتي أدمعي أسير أرى في الدنيا سابحا==0== ==0== أسير الهويني الى مصرعى==2== وفي قصيدته المعنونة ب (اليأس) يقول: عندما الأحزان والأشواق والآمال في صدري تمور عندها صف لاضلاعي كطابور لحراس المدينة مرجل يغلي واقدامي تسامت والهواء الطلق تزجيه اعاصير الضغينة ومع ذلك فإن الشاعر يسرف في تأمل الأحداث حتى ان هذا الإسراف طغى على معظم قصائده فقدم لنا هذا الطغيان صورا ممزوجة من الواقع والحلم , والحقيقة والخيال فهذه أبيات كتبها الشاعر ولما يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره يشهد على ذك التمازج الطباقي بين خيال رحب وواقع مرير: سعف يطير ولا يطير هي درة الحوض النظير هي في الشوارع والحديقة هي حرة وكذا رقيقة.. وإذا ما أدلهم الظلام عليه فإنه يلوذ الى عالم الطفولة ليحمل له ضياء يبدد الظلمة ويجلو العتمة فللطفولة عند شاعرنا ذكرياتها الخاصة التي كثيرا ما يتفيء ظلالها لا سيما ان صاحب الديوان أخذ على عاتقه منذ العقدين دراسة طب الأطفال , وهو كلما عاد الى الخلف كلما حس بالطمأنينة اكثر: وضحكة طفل تشق السكون ونور يمزق ثوب الظلام إذا شح يوما بصيص الضياء وفي قصيدة أخرى: قريتي في المنتأى رسم لطفل تحت ضوء الشمس تخفى في الربى قطع من ذلك اللحن الحزين وكلما نظر شاعرنا الى المستقبل وجده قاتما ورأى أن النهاية قريبة , وتعانقت اللهفة مع الخوف , فللعمر عنده بقية قصيرة كثيرا ما أفزعته وأشغلت ذهنه فلم يستطع ان يخفي حيرته في هذا العمر القصير: دقائق العمر القصيرة زهرة ذبلت على فرو المهاد عمري كشمس في جليد القطب تشرق ضمن خوف يعتريه ضياء غيد ولادة ممزوجة بالموت والموت المشين يسير نحو الصفر يوم تقتلع فيه الولادة.. وهو غريب في زمن قل فيه الصدق واستحوذ النفاق وبدأ الناس يكيلون فيه بمكاييل عدة , فأضحى تحرر الناس من مبادئهم السامية ضربا من الرقي , وعلت وجوه الناس أقنعة متعددة حتى صارت الدنيا في نظر شاعرنا مكانا لاحتواء التناقضات حتى في الطبيعة وفي داخل النفس الانسانية , لا شك انها نظرة تشاؤمية نحو الحياة لم يتردد الشاعر صالح في التعبير عنها بصور متميزة سخر فيها الكلمة بأبعادها المختلفة أيما تسخير , إنه بالفعل صراع مرير مع تيار الحياة المليء بالاضداد: ==1== ضقت بالأضداد من حولي وكم==0== ==0== حرت فيها حين يحتد اللقاء==2== الى أن يقول: أيها المولود في الدنيا وقد ضقت ذرعا في مساحات الفضاء لست حرا بل سجينا طالما كل ما يأتيك منزوع الصفاء وفي أخرى: نفاق يشبه الصدق عيون الثلج تلمحني تطاردني فلون القمح في جلدي أثار تساؤلا أعمى إذن لا غرو أن يلوذ الشاعر بعالم الطفولة كما أسفلت , هروبا من دنيا التناقض حتى لو كان هذا الهروب خياليا , ترى ما قيمة الشاعر , إذا لم يكن خيالا رحبا؟ وكما يقول الشاعر الانجليزي الشهير ووردزورث (لا قيمة للشعر بلا خيال) : خيال لجسم تعرى يغربله الدود حتى العيون وحتى اللسان ويضحك دون شفاة روى قصة وانتهت وانتهى للوطن والأمة حظ وافر من شكر شاعرنا , وطن القرية ووطن البلد ووطن الأمة , فإيمانه عميق بالهوية لكن هذا الإيمان اصطدم مرة أخرى بيأس وخيبة أمل , فأمته لم تعد تلك الأمة المجيدة التي ما برحت ترفع شعارها خفاقا على مر العصور: ==1== وشعار أمتنا الهلال==0== ==0== وتحته الأمل الغريق==2== نجيمة فقدت على مر التواريخ البريق.. وفي قصيدة جميلة أخرى: ==1== امتي عفوا فإني فارس==0== ==0== ساحتي رق وسيفي قلمي ارتمى فرسي هم على القلب==0== ==0== يشعل النار ويذكي ألمي==2== الشاعر صالح العليان بصدد ديوانيين آخرين قريبا بعنوان هتاف الصحارى وخماسيات , وسوف يصدران عن دار الرسالة. * ماجستير في الأدب المقارن