دفعت هذه الصورة صناع القرار في الولاياتالمتحدة الى مراجعة النظرية التي تقول باحتمال صعود منافسين جدد محتملين "اوروبا، الصين، اليابان وروسيا"، الأمر الذي أدى الى طرح السياسة الانفرادية والاحادية القطبية، ودفع باتجاه سياسة الهيمنة خاصة بعد ما تبين ان مسافة كبيرة اقتصادياً وعسكرياً تفصل بين الولاياتالمتحدة ومنافسيها الذين تتهدد كل منهم عوامل ضعف بنيوية. في هذا المناخ بدت الفرصة سانحة، بل بدت وقائع السياسة والاقتصاد في العالم كلحظة تاريخية مناسبة لامريكا لاعادة صياغة المشهد الدولي بما يتناسب ومصالحها، وهو ما تجسد إستراتيجية هجومية وبسياسات احتوائية منفردة بدأت طلائعها بالبروز بشكل واضح منذ ما قبل احداث 11 سبتمبر، وهي بعد هذه الاحداث اندفعت أكثر فأكثر في هذا المجال. ان الحديث عن تداعيات 11 سبتمبر لا يجب ان يختزل تلك التطورات الهائلة التي كان يشهدها العالم بعد سقوط جدار برلين وافتقاد الولاياتالمتحدة "للعدو" التاريخي الذي وطنت نفسها على محاربته. فسقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن يعني مجرد سقوط نظام في الحكم معين ولا مجرد انحلال تكتل بين دول، ولا مجرد تفتت معسكر دولي، بل كان يعني بالدرجة الأولى سقوط نظام اجتماعي اقتصادي وفكري، نظام يطرح نفسه كمشروع حضاري للمستقبل، كان يبشر بعلاقات انتاج جديدة وبنظام سياسي وايديولوجيا جديدة وبعبارة واحدة: بداية تاريخ جديد للانسانية. وبصفته مشروعاً حضارياً للمستقبل كان لا بد ان يدخل في صراع مع النظام القائم الذي من جوفه خرج، وهو النظام الرأسمالي. كان الصراع بين النظامين يشمل الاقتصاد والسياسة والقيم والفكر، وبما أنه لم يتطور الى صدام مسلح على غرار الحربين العالميتين بسبب الرادع النووي، فقد اكتسى صيغة صراع حول المناطق الاستراتيجية ومواطن الثروة، وايضاً صيغة صراع ايديولوجي استعمل فيه الدين والعلم والثقافة. ان سقوط احد طرفي الصراع بدون حرب كان بدون شك انتصاراً للطرف الآخر، المعسكر الرأسمالي، لكنه انتصار من نوع خاص لم يكن نتيجة مواجهة يتحمل فيها كل طرف نسبة من الخسارة، ولا نتيجة معاناة تحمل كل طرف على التكيف مع نتائج المعركة. لكنه كان انتصاراً مجانياً بدون ثمن، كان في الحقيقة الغاء للمباراة قبل اجرائها بسبب انسحاب غير متوقع لاحد الطرفين. فيما بقي الطرف الآخر كما هو بكل عدته العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية والعلمية والفكرية. وايضاً بقي في حالة تعبئة وتجنيد، ولكن بدون عدو. لقد خلت له الارض وخلابها. وتلك مشكلة من نوع جديد. لقد وجدت الولاياتالمتحدةالامريكية نفسها فجأة، دولة، بل معسكر وترسانة من الاسلحة، بل تحالف دولي بنى سياسته واقتصاده واستراتيجيته وثقافته ورؤاه المستقبلية على أساس انه يواجه عدوا يتربص به، فاذا بالعدو ينسحب، بل يختفي ليظهر وراء خصمه يطلب الانخراط في نمط حياته ليصير جزءاً منه وحليفاً له. مشكلة ليست سهلة على حد تعبير محمد عابد الجابري، مشكلة "الانا" الذي لا يعرف كيف يتعرف على نفسه إلا من خلال "آخر" يواجهه، فإذا هو يفقد فجأة هذا "الآخر" الذي يتحدد به. فماذا يمكن ان ننتظر من هذا "الانا"؟ هل ننتظر منه ان يفكك ذاته ويعيد تركيبه؟ كيف؟ وكيانه جميعه موجه ككل وكأجزاء الى مضادة كيان "الآخر" ككل وكأجزاء؟ ان بقاء الولاياتالمتحدة بدون "آخر" خارجي لن يكون الا على حساب وحدة "الانا" فيها. وهي مجموعات من أصول واثنيات مختلفة وثقافات متعددة، ومصالح متنوعة، فكيف يمكن المحافظة على وحدة "الانا" فيها بدون "آخر" يمثل العدو المشترك. هذه الاشكالية البنيوية الجديدة ترافقت مع تنامي نفوذ التيار اليميني داخل الادارة الامريكية والذي يمثل امتداداً لتيار المحافظين الجدد الذي شهد منذ الثمانينيات مع رونالد ريغان تقدماً ملحوظاً، وهو التيار الذي تبنى مفاهيم الهيمنة والمواقف الانفرادية، وقد ظهر هذا واضحاً في عدد من المواقف منها: انسحاب الولاياتالمتحدة المنفرد من اتفاقية الصواريخ المضادة والذي أثار مخاوف حلفاء امريكا، فهذه الاتفاقية كانت تعتبر اساس التوازن الاستراتيجي في العالم. عدم تصديق الادارة الامريكية على بروتوكول كيوتو حول التغييرات المناخية في العالم. مقاطعة مؤتمر التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية ومؤتمر المراجعة الذي عقد حول الاسلحة البيولوجية. رفضها التصديق في الكونغرس على معاهدة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية. تبني سياسة انحياز كامل وبعيد المدى في سياستها الشرق أوسطية لصالح اسرائيل مما أدى الى احراج حتى حلفاءها العرب. هذه المواقف وغيرها تؤكد ان احداث 11 ايلول لم تحدث تحولاً في السياسة الامريكية التي حافظت على اتجاهها في العمل المنفرد وتأكيد الهيمنة، فالدول العظمى، حسب تعبير محمد حسنين هيكل، لا تغير استراتيجياتها بسهولة، لان هذه الاستراتيجيات لا تصنع بالالهام او النزوة، ولا تتقرر بقيام حكم وسقوط آخر، ولا يؤثر فيها ان يذهب رئيس ويجيء رئيس قائد استراتيجيات املاء جغرافيا وتاريخ، وقد تتغير السياسات المعبرة عنهما لتلاءم مع متغيرات الظروف، لكن الاستراتيجية تعلم دارسيها ان الاهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين: اقتراب مباشر أو اقتراب غير مباشر، مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهراً امام عيون طالبيه حتى وإن اخذتهم "التضاريس" الى الطرق الدائرية.وهو ما يحدث اليوم اقترابا مباشرا نحو الهدف يعتمد مفهوما جديدا هو الضربات الوقائية ضد هجمات محتملة وعدو مفترض. تنامي دور اليمين المحافظ يشير الاستعراض السابق لوقائع التعثر والصعود الامريكي على صعيد امتلاك مصادر القوة والانفراد بها الى التزامن الحاصل مع نمو دور اليمين الديني والخطاب الايديولوجي منذ ولاية ريغان، وهو الخطاب الذي اتجه نحو التجذر بعد سقوط جدار برلين وتهاوي الاتحاد السوفيتي وفقدان الولاياتالمتحدة للعدو التاريخي الذي يشكل وجوده حاجة استراتيجية كما اسلفنا، وهو الأمر الذي كان يتجه نحو البحث عن عدو "بديل" تمثل فيما سمته الميديا الامريكية ب"الارهاب" و"محور الشر" فيما بعد، وهو ما تبنته الادارة الامريكية مع بداية التسعينيات. وهذا "العدو" المفترض، ولاسباب عديدة، تمثل في الاسلام، وجاءت احداث 11سبتمبر لتدفع بهذا الاتجاه الى أبعد مدى، ومعه نجحت قوى اليمين المتصهين في الربط المحكم بين الارهاب والمقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني، وهو ربط لم تتجرأ عليه الادارات الامريكية السابقة.. الا أن الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود، بل برزت في الافق مظاهر مقلقة هيمنت على الخطاب السياسي والاعلامي الامريكي دفعته باتجاهات عنصرية وايديولوجية صارمة ضد العرب والمسلمين. ومنها نرصد التالي: زلة اللسان التي اشار بها بوش الابن الى ان امريكا تخوض حرباً صليبية ضد الارهاب. تصريح جون آشكروفت وزير العدل الامريكي الحالي الذي اعتبر فيه ان الاسلام دين يطلب فيه الله منك ان ترسل ابنك لكي يموت من أجله، والمسيحية ايمان يرسل الله فيه ابنه لكي يموت من اجلك. تسريب التقرير الصادر عن مركز استشاري للبيت الأبيض يتحدث عن امكانية توجيه ضربات نووية محدودة ضد دول "محور الشر". صدور سلسلة من التصريحات عن اليمين المسيحي الاصولي الامريكي تعتبر الاسلام انه الشر الذي يجب مكافحته، وتصدر هذه الحملة ثلاثة من أبرز شخصيات اليمين البروتستانتي المقرب من الرئيس، والذي يملك وسائل اعلام واسعة الانتشار. @@ د.عبد الغني عماد @@ المركز الوطني للدراسات . لبنان