المناطقية ليست عيباً؛ فكل واحد منا ينتمي أصلاً إلى بلدةٍ ما بوطننا الغالي. والمناطقية ليست خطراً؛ فماذا يعني أن يكون المواطن في «الدولة الحديثة» من هذه المنطقة أو تلك! لا شيء في الواقع يدعو للقلق. القبيلة هي كذلك تنظيم اجتماعي قديم لا عيب في نسَقِه المُتشعِّب ولا خطَر. معظم أبناء الجزيرة العربية ينتمون إلى قبائل شتى. بعضهم ما زال يحمل اسم القبيلة، وبعضهم اسم أقرب فرع منها، أو اسم أُسرة استقرّت في القرى وتحضّرت منذ قرون. حتى الذين لا ينتمون حالياً إلى أية قبيلة، كانوا في الأصل من قبائل عريقة، ربما زالت، أو ربما انفصلوا عنها، جرَّاء الحروب والصراعات المقيتة القديمة. ولانعدام توثيق أحداث الماضي لغَلَبة الجهْل، نَسيَ الناس أصولهم، فاندثرت انتماءاتهم الحقيقية. كما أن القبلية مُكوِّنٌ كبير من مُكوِّنات إرثنا الثقافي، فما زالت ذاكرتنا نحن العرب، بانتماءاتنا القبلية والمناطقية المختلفة، متشبثة بالنبي «الهاشمي» عليه أفضل الصلاة والتسليم، والطفيل بن عمرو «الدوسي»، وعنترة «العبسي»، وحاتم «الطائي»، والأصمعي «الباهلي»، وجرير «التميمي».. وغيرهم الكثير ممن شكلوا بناء ثقافتنا وحضارتنا. وكانت دولة الإسلام تحتضن مختلف الأجناس وتعدهم من مواطنيها، حتى لو أتوا من بلادٍ غير عربية. فهذا سلمان «الفارسي»، وصهيب «الرومي»، وبلال «الحبشي» عاشوا بود وانسجام مع أبناء قريش والأوس والخزرج في أول مجتمع إسلامي في المدينةالمنورة. وقد قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: «سلمانُ منّا آل البيت». إن البطاقة الوطنية قد تكون وسيلة فاعلة لتعزيز وحدتنا الوطنية عند إعادة صياغة محتواها بأسلوب يفوت الفرصة على أي شخص قد يستغل الأسماء والأماكن لحرمان مواطن بسيط من حق مشروع داخل وطنه في وظيفة شاغرة، أو مقعد دراسي، أو سرير علاجي، أو أي حق آخر.كما أن هذين التصنيفين (المناطقية والقبلية) متداخلان إلى حدِّ كبير. فقد أكون قبلياً، ولكن ارتباطي بمنطقتي وأهلها أكبر من ارتباطي بقبيلتي وشيخها، الذي قد لا أعرف حتى اسمه. والخُلاصة التي يمكن برهنتها تاريخياً، أنه كلما توطَّدَت المدنية أكثر في نفس الإنسان، كان ارتباطه بالمكان أكبر من ارتباطه بالقبيلة. المدنية والتحضُّر يُضعفان دور الروابط القبلية، خصوصاً عند توافر العدالة في الفرص، والمساواة في الحقوق والواجبات. لماذا ألجأ إلى شيخ قبيلتي إذا كانت حقوقي يضمنها النظام العام للدولة الحديثة! وكذا المناطقية، فإنها تخبو مع انتشار العدل والمساواة، فما الداعي لمحاباة أبناء منطقتي لي، وحقوقي مكفولة، وواجباتي معروفة، وفرص العمل والعيش الكريم متوافرة لي ولغيري بالتساوي. إذاً فالقبلية والمناطقية هما تصنيفان طبيعيان، لا إشكال في وجودهما، إلا إذا تم توظيفهما خارج سياقاتهما الطبيعية. فعندما تغدو القبلية أسلوباً للتفاخر (لا الفخر) وتهميش الآخرين وتحقيرهم وتشويههم، وساحة لإشهار نعرات الماضي وجهالاته، تصبح دعوة جاهلية مُنتنة، تركها أولى. وعندما تغدو المناطقية باباً لاستغلال النفوذ والمحاباة والسيطرة على الموارد وتوزيعها بانتقائية، يصبح من اللازم غلقه بالشمع الأحمر.إن أحد الحلول السهلة المتاحة لإنهاء التبعات السلبية للمناطقية والقبلية هي إحداث تغيير بسيط في بطاقة الهوية الوطنية، بحيث يُزال اسم القبيلة أو الفخذ، ويُكتفى باسم مُبسَّط، لا يحمل أية عوالق في الذاكرة المجتمعية. هذا الإجراء لا يجب رؤيته على أنه عداء للقبيلة، بقدر ما هو حماية لأبنائها من شر نفوسهم، وشر نفوس غيرهم. فلا تفاخر مقيت وتجمعا على أمور جاهلية من جهة، ولا انتقائية في القبول والتوظيف ومحاباة التنصيب واستغلال الموارد من جهة أخرى. فيضمن الجميع حينها تساوي الفرص المتاحة لهم.كما أن المناطقية يمكن القضاء عليها بإزالة مكان الميلاد من البطاقة وأية إشارة أخرى لمكان الإصدار، بحيث يكون مكان ميلادنا جميعاً المملكة العربية السعودية، فهي وطننا الأول والأخير، ومنطقتنا الوحيدة، وقبيلتنا الفريدة. إن البطاقة الوطنية قد تكون وسيلة فاعلة لتعزيز وحدتنا الوطنية عند إعادة صياغة محتواها بأسلوب يفوت الفرصة على أي شخص قد يستغل الأسماء والأماكن لحرمان مواطن بسيط من حق مشروع داخل وطنه في وظيفة شاغرة، أو مقعد دراسي، أو سرير علاجي، أو أي حق آخر. ولا يعني إزالة اسم القبيلة ومكان الميلاد من البطاقة إزالة التاريخ والإرث الاجتماعي للناس أبداً، ففي وزارة الداخلية تُحفظ السجلات الشخصية كاملة بالتفصيل لأغراض توثيقية يمكن طلبها عند الحاجة وفق النظام. كثيرون حولي اتجهوا إلى تعديل أسمائهم في بطاقاتهم بسبب ما ذكرْتهُ سلَفاً، فلماذا لا تتحول هذه التعديلات الفردية إلى مشروع وطني كبير يُحفِّز على التطور الاجتماعي، ليسوُد مفهوم الدولة الحديثة ومجتمعها المدني على ما عداه من مفاهيم أخرى للانتماء! [email protected]