@ لن اتحدث اليوم عن شحوب هذا الزمن ولا عن خرائبنا النفسية ولا عن مدننا التي اضناها نضوب الالفة والمحبة.. عم اذن سأتحدث؟ عن الدهشة بداية، تلك التي غادرت اذهان الكثير منا دون رجعة.. يقول جوستاين غاردر (الميزة الوحيدة اللازمة لكي يصبح الفرد فيلسوفا جيدا هي قدرته على الدهشة) سمة تثير روح التساؤل وتثريها.. فحين يمتلك المرء الدهشة، فان ذلك يعني انه مؤهل تأهيلا جيدا لمزاولة التجربة الانسانية بأبعادها الحقيقية. كل البشر يولدون مدهوشين بهذا العالم الذي حلو فيه، لان العالم لغز كبير، مبطن بالغرابة، وغير قابل للتفسير.. الناس يأتون الى هذه الدنيا وهم محملون بحب فائض، وحماس متأجج للتساؤل وطرح الاسئلة.. شيئا.. فشيئا.. ترتشف منهم الايام ذاك الحب وتمتص الاحداث منهم حماسهم مع السنين.. وتزداد الخطوط الحمراء فيعتادون ويتعودون، على الاشياء من حولهم دون ان يسألوا لماذا!! ومن ثم يقع السواد الاعظم منهم في فخ الاعتيادية، فتموت في نفوسهم الدهشة، ويتحولون الى علب بشرية بمقاسات مختلفة.. @ يقول الطيب صالح (الحضارة انثى وكل ماهو حضاري فهو انثوي) فالارض التي توجد احلام نسائها في جميع الاحيان تحت خدر ذهني محاصر، وتدور ثقافتهن حول ما يليق وما لايليق بستر زائف.. وحرياتهن تحتدم بين طلاء الاظافر ورش المساحيق والعطور.. وتتجسد كل امانيهن في فساتين الصرعة والاحذية الملونة.. ويكون همهن الدائم برامج الطبخ، وخطط تخسيس الوزن.. ورغباتهن تحوم باستياء بين حدود الاجساد واصباغ خصلات الشعر، مثل تلك الارض التي تفرخ ذاك التوجه لنسائها، فإن حضارتها دون ادنى شك لديها استعداد دائم للانقراض. @ يقال ان (الرجل طفل كبير) فالرجال يظلون يكتنزون بعض سمات الصغار لانهم يحتفظون ببقايا طفولة، وهذا مايزيد نضارتهم ويميزها.. فقلوبهم تكتنفها هموم دؤوبة.. تتألق بالنشاط الغض، وعبث المغامرة، ومخاطبة المجهول.. لكن ذاك هو الجانب المضىء من بقايا الطفولة فيهم.. هنالك ماهو داكن ومترسب على الضفة الاخرى.. فالذكر في صغره لديه ولع حاد في اقتناء الاشياء واحتوائها، فيكبر ويصير رجلا، ليتفتق ذلك الولع بأوجه بشعة في غالب الاحيان، وتتحول المقتنيات الى امور اكبر، املاك ومناصب والقاب، واذا كان شرقيا، تصبح النساء من ضمن غنائمه المحببة. لكن الطامة الكبرى تتفاقم حين يصبح ويمسي كالمنشار، ويمتلك سلطة والعابا شديدة الخطورة، فان تلك هي ذروة المأساة للعالم من حوله. @ وشهر زاد الحب تحكي في اطالة لإحدى لياليها الواحدة والالف.. حيث تشدو بعذوبة (الا ايها العشاق بالله خبروا.. اذا اشتد عشق بالفتى كيف يصنع؟) فحين تشعر ببركان ثائر.. تجوب ثناياك حمم حارقة.. ويداهمك ارتجاج شديد في قشرتك الدماغية.. وعصف واعاصير تضج عالمك. وترج قلبك المنهك.. فيضخ اطنانا واطنانا من الاحاسيس الحميمية والمشاعر الدافئة.. لكن بين اللحظة واللحظة تسائلك ذاتك.. هل وقعت في غياهب الحب ام انها هلوسة النزوة؟ هذا الاختلاط الخطير الذي يحتاج الى حسم.. كيف ستفكك طلاسم تلك المعادلة؟ ادواتك تكاد تضيع من بين راحتيك.. بصيرتك تتعثر فتعيقك عن الفهم.. تتوقف ارسالاتك العقلانية وتتعطل حواسك ولغتك.. ولا تدري على اي ارض تضع قدميك.. ولا كيف ستحتفظ بتوازنك كي لاتعرض نفسك للسقوط المؤكد.. تلعب بك الحيرة لعبتها المفضلة، فتوهمك بآلاف الاشياء المفرحة.. وتغفل حينها عن ان الحب هو هم محفز جميل وشؤون صغيرة مشتركة.. @ يطل محيي الدين اللاذقاني بعد اختفاء قناديله عنا في هذه الحقبة الغبراء بقول ان (الأوطان كالأمهات تحملك في الرحم عدة اشهر، فتحملها للأبد في بؤرة القلب وبؤبؤ العين). ترى كم واحد في هذا العالم يحمل شيئا من وطنه او لوطنه؟ هل المواطنة صفة جينية ام وهم متوارث؟ المعروف ان العلاقة تتطلب مساهمة من الطرفين لاستمرارها، فالأم التي لا تتدفق مع من يحيطون بها حنانا وحبا، ولا تسيل شوقا وولعا، تبيت علاقتها بمن انجبت باهتة ودون توهج.. مثل الوطن الذي يفشل في بناء جسور حميمية صلبة مع من يقطنون على ارضه.. فيضمر بريقه في الداخل، ويغيب حضوره في النفوس.. ويمسي رمزا شاحبا لايمثل سوى علما وتربة.. @ سحر العيون وسحر القلم الذي لايهاب العتمة، حازت عليهما في آن واحد غادة السمان.. ومرة اخرى تهمس بصوت يندس في الاوردة ويتحدى خلايا العقل المتأهبة (لو تحدثت بأي لغة لوقع سوء التفاهم نفسه، المأساة فكرية لا لغوية انها في المضمون لا في القالب) حقا اللغة عائق حضاري، بينما الفكر معضلة كبرى.. وهذا مظهر بسيط من احد مظاهر هذا الكون الديناميكي.. وكي لا تشل الحركة فان التعددية والاختلاف، وتعارض الافكار والمعتقدات، جميعها ظواهر صحية، اذا ظلت تحوم في دائرة تقدير ذات الآخر، واحترام آدميته.. فالفكر كضوء الشمس، يزداد وسامة وجاذبية حين يعكس الوان طيفه على ارض سمحة..