لم افكر في العودة لموضوع الرقابة وانا اسلم زاوية الاسبوع الماضي الى المسئول عن هذه الصفحة. ولكن ما ان قرأتها في الجريدة حتى تجددت في داخلي الرغبة في كتابة جزء ثان يبدأ حيث انتهى سابقه، فقد شعرت بأنني لم اقل كل ما اردت قوله. لكن متى يستطيع الانسان التعبير عن كل ما في نفسه خصوصا عندما يكون مقيدا بمساحة محددة، عليه ان يملأها بعدد محدد من الكلمات ايضا. موضوع كتابتي اليوم هو ظاهرة الرقيب والحارس الجديد الذي يتواجد في كل مكان وزمان، ويبدو في كثير من الاحيان اشد ضراوة من الحارس العربي القديم ذي الصفة الرسمية لانه، اي الرقيب الجديد، يخضع خضوعا فاضحا للعاطفة والافق الضيق ويبالغ في الادعاء انه يعرف ما يصب في مصلحة الجماعة، انه يملك قدرة لا تتوافر لغيره على تمييز ما هو نافع مما هو غير نافع، غير عابئ بحقيقة ان النافع ونقيضه شيئان يخضعان للنسبية، وغير مدرك تماما ان ما قد يعتبره نافعا قد لا يكون كذلك في نظر الآخرين، او قد يتفقون معه على ضرر شيء ما، ولكن ضرره يأتي بدرجات متفاوتة ومختلفة مما يترتب عليه اختلاف تعاملهم معه. واساس الخلاف مع هذا الحارس الجديد هو محاولته فرض قناعاته وآرائه على الآخرين بطريقة تنتهك حرياتهم الشخصية وتنفي عنهم الوعي والمعرفة بمصلحتهم وبكل ما يمثل هدرا او صونا لها. يظهر هذا الحارس في كل مكان كما قلت الاسبوع الماضي، حتى في الجامعات، المكان الذي لا تتوقع ان تجده فيه. لكن هذا هو الحال معه، فهو يمتلك قدرة مذهلة على الانتشار. ولضرب المثل على اختراق هذا الرقيب العربي الجديد حدود الجامعة في الوطن العربي أشير الى قصة الدكتورة سامية محرز استاذة الادب العربي بالجامعة الامريكية في القاهرة القصة التي ترد تفاصيلها المفجعة الصادمة في شهادة تضمنها العدد الاخير من مجلة الآداب البيروتية. فقد تعرضت الدكتورة سامية محرز للاستجواب والمساءلة والمضايقات من قبل الجامعة فضلا عن الحملة الاعلامية الشرسة ضدها بسبب شكوى من اثنين من اولياء امور الطلبة مجهولي الهوية طالبا فيها ان تتدخل الجامعة لإيقافها عن تدريس رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري بحجة انها مفسدة للاخلاق. ولم يتوقف الامر عند اتهام سامية محرز بتدريس ما اعتبراه خارقا ل (التابو) الاخلاقي الاجتماعي بل تعداه الى قذفها بتهمة اخلاقية. اثارت القضية المثارة ضد الدكتورة سامية ضجة كبيرة في الاوساط الاكاديمية عربيا ودوليا وازدحمت "الانترنت" بخطابات التأييد والمناصرة من جميع انحاء العالم لها في مواجهة الرقباء والاوصياء الجدد الذين لم تواتهم الشجاعة على الافصاح عن هويتهم، وضد ادارة الجامعة التي وضعت نفسها في موقف الضعيف الذي لا حول له ولا قوة وفرطت تفريطا ذريعا في هيبتها واستقلاليتها وقمعت بنفسها الحرية الاكاديمية فيها نتيجة اصغائها لشكوى غير المتخصص المجهول ضد سامية محرز المتخصصة التي اختارت رواية (الخبز الحافي) لاعتبارات جمالية وفنية ولكونها نصا (يتطلب.. تدريبا على القراءة الادبية النقدية الواعية التي تستدعي قدرا عاليا من القدرة على التأويل). الغريب ان سامية محرز درست الرواية نفسها قبل عام (1998 - 1999)، كما درستها احدى زميلاتها ولم يثر ذلك اية زوبعة. لكن حارسين جديدين جبانين اثارا قيامة عليها. لا يتسع الحيز هنا لسرد تفاصيل تلك الفضيحة الاكاديمية، ولكن ما اوردته كافيا لايضاح حجم السلطة التي يحاول الرقيب الجديد ممارستها وخطورة تدخلاته في امور لا يفقه فيها شيئا. بيد ان المفجع حقا هو استجابة الجامعة الامريكية لتلك الشكوى فلقد جلدت نفسها بفعل ذلك كما تقول الدكتورة سامية، وهو ما اتفق معها عليه بدون تحفظ او تردد. لكن ما هو اشد صدما وافجاعا ان الجامعة الامريكية ليست الجامعة الوحيدة في الوطن العربي التي تمارس جلد النفس وتفقأ عيونها بأصابعها لتدع الحراس الجدد يبصرون لها وبالانابة عنها. هل قلت كل ما اريد قوله؟ بالتأكيد كلا، ربما افعل ذلك ذات كتابة!!