هناك وجه من الشبه بيني وبين الشاعر الذي قال: ولي يقين كلما ثبته ينزلق لقد حفظت وتمثلت ما قاله المتنبي (لكل امرىء من دهره ما تعودا) ولكني اعود، بين فترة واخرى، الى الشك في صدقه المطلق، على الرغم من قيام شواهد كثيرة تاريخية وعلم نفسية وحياتية معاشة، على صحته، ولمسه لما في السلوك البشري. محاولة عملية واحدة غرست في داخلي اليقين المطلق بصحته، تلك هي محاولتي الجادة للخروج من دائرة الأيجاز في الكتابة الى دائرة الاسهاب، وذلك حين اتصل بي هاتفيا المسؤول عن الزوايا في هذه الجريدة قائلا: كانت زاويتك صفحة واحدة. الان مع التطوير الجديد، نريد ان تكتب ثلاث صفحات بدلا من الواحدة. يا للهول!! ثلاث صفحات؟ كيف لي ان اجعل اللغة ذات طبيعة مطاطية؟ لقد اعتدت على الايجاز، وكنت اعرف انه الجدار الذي يحول بين بعض القراء وبين فهم ما اكتب، ولكني اعتدت عليه، فكيف الخروج منه الى فضاء الاسهاب؟ اني احتاج اذن الى قلم آخر، اطول لسانا من قلمي. يعرف البلاغيون الايجاز بانه (اظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير) ويقسمونه الى قسمين هما: ايجاز القصر، وايجاز الحذف، والذي يهمني هنا هو ايجاز الحذف، لانه هو الذي اعتدت عليه. الحذف يعني كل كلمة تسقط من العبارة، وتكون مفهومة من سياق الكلام. هذا ما عليه البلاغيون جميعا. ولكن واحدا منهم فقط هو الذي ذكر سببا نفسيا لهذا الحذف، حين وقف على الآية الكريمة (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاؤها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) الزمر الاية 73. لقد اعتبر هذا البلاغي ان (حتى) في الاية ظرفية متضمنة معنى الشرط، وقد حذف جوابها، وهو حسب تقديره (حصلوا على النعيم) ثم قال : (وانما صار الحذف هنا ابلغ من الذكر، لان النفس تذهب فيه كل مذهب) فجعل هناك سببا نفسيا للحذف وهو اطلاق خيال السامع. ان النصوص الادبية الحديثة كلها تنحو هذا المنحى، اي اطلاق خيال القارىء او السامع لخلق الصورة الاضافية من النص.