(كنت بالنسبة اليه (ترمومترا) يعكس مدى نجاحه في التأليف. فانا قارئته الاولى, وهو يعتز برأيي ويؤكد انه تيقن مرارا من صحة انطباعاتي بعد اطلاعه على آراء القراء والنقاد.. في بعض الاحيان كنت اكتب بيد واكفكف دموعي بالاخرى فيتوقف عن الاملاء ويقترب مني صامتا ويقبل رأسي بحنان..) هذه لقطة من مذكرات (آنا دوستويفسكي) زوجة كاتب روسيا الكبير فيودور دوستويفسكي.. وقد كابدت (آنا) مع زوجها حياة العسر, وشظف العيش, والترحل الدائم, وتقلبات الظروف والاحوال. وكان الرجل فوق ذلك محاصرا بالديون, ومصابا بالصرع, ومدمنا للقمار. ولا وجه للمقارنة بين (آنا) شريكة التشرد والتمزق والفشل, وبين تلك التي لاتستفزها الافراح, ولاتحركها الاتراح, ولاتعرف شيئا عن نصفها الآخر خارج حدود عش البعولة, فهي لاتشكل, والحال هذه, (نصفا) آخر ولا (ربعا) الا بما تبثه على كل الموجات العاملة من الشكوى والتذمر والنقيق, بمناسبة ومن غير مناسبة. كذلك لا وجه للمقارنة بينها وبين (سونيا) زوجة الكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي التي ارت زوجها نجوم القائلة وملأت حياته غيرة ونكدا. اما المفارقة العجيبة فهي ان تلك (السونيا) قد انجبت له ثلاثة عشر طفلا. تقول متهكمة: (لقد انجبت ثلاثة عشر طفلا على كرسي جلدي قاسي الظهر بينا كان زوجي يكتب بياناته عن حياة العزوبية والتبتل!!) ثلاثة عشر طفلا نبتوا فوق فوهة بركان من الخصومات والمعارك. فيالها من ارنب ولود غير ودود! ترى كم كانت ستنجب لو ابحر زورق حياتهما الزوجية على صفحة ماء هادئة!! اما الوقود الذي اشعل كل تلك الحرائق فهي الغيرة التي كانت تلعب باعصاب الزوجين. والغيرة اذا لم تهذب تنقلب الى آلة مدمرة لاية علاقة كانت. كما ساهمت افكار تولستوي وتوجهاته الفلسفية التي تجاوزت حدود التنظير الى التطبيق بدور كبير في تأجيج نيران تلك الحرائق المنزلية. ولم تكن سونيا قادرة على استيعاب وهضم تلك الافكار والتوجهات الفلسفية وبالتالي تبنيها وكان الرجل بحاجة الى (نصف آخر) شبيه بشخصية (اولنكا) في قصة (حبوبة) للكاتب الروسي تشيكوف. فهي امرأة قادرة على الانصهار والذوبان في شخصيات ازواجها لكنها على ما يبدو الاستثناء وليس القاعدة. تزوجت (اولنكا) مسرحيا فحفظت لغة المسرح, وصارت تردد ما يقوله زوجها عن المسرح وهمومه. وتزوجت رئيس مخزن اخشاب فانصبت احاديثها على تجارة الخشب, وانواعه واسعاره. وحين تزوجت بيطريا صارت مرجعا اعلى في امراض الحيوانات, والرقابة البيطرية. هكذا تقمصت (اولنكا) مختلف الادوار واندمجت فيها الى درجة الانصهار والتوحد. فعلت ذلك بكل ما وهبت من براءة وعفوية وصدق وطيبة وحنان. لكن بعض الرجال قد لايقدر مثل هذا النموذج النادر حق قدره, واخص بالذكر مزدوجي الشخصية ممن يرتدون وجهين: احدهما هاش باش للاستخدام خارج البيت, والآخر عابس متجهم للاستخدام المنزلي, كما هو شأن احمد عبدالجواد, الشخصية التي رسمها نجيب محفوظ في ثلاثيته المعروفة. ومثل هذا النموذج من الأزواج لايستحق مثل ذلك النموذج من الزوجات. ترى بعض المنافحات عن حقوق المرأة أن الزواج شأنه شأن أية مؤسسة اجتماعية تنحاز للرجال, وأن دور النساء في هذه المؤسسة لايعود عليهن بمردود مماثل لحجم ما يقدمنه من خدمات, وأن الرجال يفكرون على هذا النحو: كل مكسب للمرأة فهو خسارة للرجال! وخلافا لذلك يرى أبو العلاء المعري أن (كتاب الزواج) شبيه ب(كتاب المتلمس) في قوله: (وان كتاب المهر فيما التمسته نظير كتاب الشاعر المتلمس)! أي أنه ينطوي على خديعة كبيرة, لذلك ارتاب المعري من هذا الكتاب ارتياب الشاعر المتلمس من الكتاب الذي بعثه معه عمرو بن هند ليسلمه إلى عامله على هجر. وما كان من المتلمس إلا أن فض غلاف الكتاب, وقرأ محتواه. وهو ما لم يفعله ابن أخته طرفة ابن العبد الذي ذهب بالكتاب ليلقى حتفه هناك, رغم النهاية التي كشفها له خاله ورفيق رحلته. ويمكن لنا أن نرصد معنى آخر ربما لم يخطر على بال المعري وهو ينظم هذا البيت, وهو أن كثيرا من العزاب يسعون طواعية إلى هذه النهاية المحتومة سعي طرفة بن العبد إلى نهايته رغم تحذيرات خاله المتلمس. ويقترح أحد الحكماء اليائسين من استتباب السلام المنزلي نصيحة ذهبية للأزواج لفتح جيوبهم أولا, أي أن يتحول الزوج برغبته ورضاه الى صراف آلي. كما يقترح فتح صدورهم وآذانهم لكل أنواع (النقيق المنزلي) لأن من يقابل ذلك النقيق بازدراء وعدوانية, ولا يحني رأسه للعاصفة قد يدخل في دوامة تحوله الى فيلسوف, وحين يصل الزوج إلى هذه المرحلة (لاسمح الله) فإن الحالة ميئوس منها. وحسب وجهة النظر هذه فان العاقل هو من يستطيع تجاوز تلك المرحلة السقراطية بسلام. فالفلاسفة مغرمون بالمنطق ومولعون بالجدل, وهي طريقة تعقد المسائل ولاتحلها. وتنفخ بالونات التوتر إلى درجة الفرقعة. وتضيف الى النار المشتعلة بنزينا ممتازا. أما إذا كان ولابد من الاعتراض على سياسة (النصف الآخر) فان على المرء أن يعبر عن معارضته لتلك السياسة على الطريقة الروسية أيام زمان قائلا: (الحالة لاتطاق في الدانمارك!!) وعلى الزوج المتذمر (النقاق) أن يتذكر أنه مهما بلغ به الحب والايثار لنصفه الآخر فلن يستطيع أن ينافس ذلك الأحمق الذي فوض شئون قلبه بعد موته لرجل آخر كي يؤدي عنه حبا بالوكالة. عندما قال: أهيم بدعد ما حييت فان أمت/ أوكل بدعد من يهيم بها بعدي! وتلك هي ذروة الايثار والحماقة معا. وهنيئا لدعد بذلك الحبيب الفلتة! وللحديث بقية..