ايفان توني يدخل تاريخ دوري روشن برقم جديد    ضمك يصعق الرائد بثنائية    رسميًا.. عدنان حمد يتولى تدريب العروبة    ضبط شخصين في الباحة لترويجهما الحشيش وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    رئيس لبنان يطالب رئيس حكومة تصريف الأعمال بالاستمرار لحين تشكيل حكومة جديدة    اتحاد القدم يختتم المرحلة الثانية من دورة الرخصة التدريبية الآسيوية "B"    جياد ميدان الدمام تتألق وتتأهل لأشواط أبطال بطل الميادين بالرياض    مادورو يصف تنصيبه بأنه «انتصار» للديموقراطية    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    عبرت عن صدمتها.. حرائق كاليفورنيا تحطم قلب باريس هيلتون    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يتجاوز 80 دولاراً    ثلاث أمسيات شعرية في ختام ملتقى أدبي جازان الشعري    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُقدم مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا        خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    شفيونتيك تكشف عن شعورها بالحرج خلال فترة إيقافها المؤقت بسبب المنشطات    الكرملين: بوتين جاهز للتحاور مع ترمب بدون شروط مسبقة    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    الخروج مع الأصدقاء الطريق نحو عمر أطول وصحة أفضل    ماذا بعد دورة الخليج؟    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    المقدس البشري    سالم ما سِلم    «سلمان للإغاثة» يوزّع مواد إغاثية متنوعة في سوريا    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    لا تحرره عقداً فيؤذيك    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ورطة الأمريكان في بلاد الأفغان
نشر في اليوم يوم 22 - 10 - 2002

حين يعلن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أن القوات الأمريكية لن تغادر أفغانستان إلا اذا استقرت الأوضاع هناك، في حين يقول الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني أن أفغانستان لن تعرف الاستقرار إلا اذا خرج الأمريكان، فان ذلك يعيدنا إلى سؤال البيضة والدجاجة، وأيهما قبل الآخر. الأخطر من الإجابة على السؤال أن مجرد طرحه يعني أن مبدأ وجود قوات أجنبية في بلد آخر رغم أنف شعبه اصبح مسألة تحتمل تعدد الاجتهادات. وإذ أسجل هاتين الملاحظتين، فأنني ازعم انه من المفيد قبل أي مناقشة لهما أن تعرف ما الذي يفعله الأمريكيون هناك؟
(1)
كان الرئيس حامد كرزاي هو المتحدث الرئيسي في افتتاح المؤتمر الذي أقيم بمناسبة حلول الذكرى الأولى لوفاة القائد الشهير أحمد شاه مسعود (يوم 7/9 الماضي). وحين دخل إلى القاعة كان يحيط به أربعة من الجنود الأمريكيين الذين ارتدوا ثيابهم العسكرية، ووضعوا على عيونهم نظارات سوداء، وفي آذانهم سماعات موصولة بناقل للصوت امام الفم، في حين كان كل واحد منهم قابضاً بيديه على مدفع رشاش صغير الحجم، وقد علق على كتفيه وتدلت من خصره أشياء لم استطع التعرف عليها عن بعد، لكني استنتجت أنها أسلحة تكميلية من مستلزمات أداء واجب الحراسة (قيل لي ان جندي القوات الخاصة يحمل معه حين ينطلق لأداء مهمته ما متوسطه 15 سلاحاً مختلفاً). وقف جنديان وراءه على المنصة، بينما وقف الاثنان الآخران امام بابين متقابلين؛ الذي دخل منه والذي سيخرج منه. ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يظهر فيها الرئيس الأفغاني امام حشد من الناس وهو محاط بالحراس الأمريكيين، إلا أنني لاحظت أن بعض الجالسين حولي تبادلوا النظرات لحظة الدخول، وهزوا رؤوسهم في صمت. لكن أحدهم ما لبث أن ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة وتحدث ببعض كلمات في أذن جاره، حين أشار الرئيس كرزاي في بداية حديثه إلى اسفه لغياب الشهيد مسعود عن مشهد "تحرير" أفغانستان. وإذ التقط مرافقي الكلمات التي قالها صاحبنا، فانه بدوره مال على أذني وقال هامساً: لا يعجبه كلام كرزاي عن تحرير البلاد بينما هو لا يتحرك إلا في حراسة الأمريكان.
لا يستطيع المرء أن يدرك حجم الدوي الذي أحدثه قرار الرئيس الأفغاني الاستعانة بحراس أمريكان إلا اذا استمع إلى تعليقات الناس العاديين في كابول حول الموضوع، والتي تمتزج فيها الدهشة بالسخرية. وقد أشرت في الأسبوع الماضي إلى أن هذا الموضوع كان أحد أسباب الخلاف بين كرزاي ونائبه وزير الدفاع الجنرال محمد فهيم، الذي لم يكن وحده، ولكن بعضاً من قادة التحالف اعتبروا هذه الخطوة بمثابة إهانة للدولة ولجيشها ولجهازها الأمني، وللرئيس ذاته. وقال لي أحد ابرز قادة التحالف، الشيخ عبد رب الرسول سياف زعيم الاتحاد الإسلامي أنها اكثر من إهانة، أنها صفعة وفضيحة. وبمرارة قال الرئيس الأسبق برهان الدين رباني انه عاجز عن تصديق المشهد، ولم يتصور يوماً أن يكون الأمريكيون هم الذين يحددون للرئيس الأفغاني الأماكن التي يستطيع أن يذهب إليها، وتلك التي عليه أن يتجنبها، وهم الذين يحددون له أي طريق يسلك وأين يتعين عليه أن ينام.
أضاف الأستاذ رباني قائلاً ان كرزاي حين زار بعض محافظات الشمال مصحوباً بحراسة الأمريكيين فان صورته اهتزت في أعين الناس وخسر تأييدهم له، إذ وجدوا أن الأمريكيين الذين يقصفون قراهم ويتعاملون معهم بازدراء شديد، هم الذين يؤمنون الحماية لرئيس بلدهم. اكثر من ذلك، فان الوزراء الذين يذهبون إلى مكتب الرئيس او يذهبون للمشاركة في الاجتماعات التي تعقد برئاسته يصادفون على بابه بعض أولئك الحراس، الذين يصطحبون معهم كلاباً بوليسية تشم حقائبهم وهم يهمون بالدخول. وحين كنت هناك كان اللغط لا يزال يدور حول حفل الاستقبال الذي أقامه كرزاي للرئيس الإيراني السيد محمد خاتمي، وكان الحراس الأمريكيون هناك، في حين ظلت كلابهم البوليسية تمارس فضولها وهي تتجول في أرجاء حديقة القصر الرئاسي الذي أقيم فيه الاحتفال، على نحو فاجأ الجميع وأثار استياءهم.
(2)
اطرق الشيخ سياف برأسه لحظة حين فتحت معه الموضوع. ثم قال ان الأمر بات مخجلاً حقاً، فنحن وإخواننا لم نحارب طيلة اكثر من عشرين عاماً، حتى تكون هذه هي النهاية، فنحكم وتدار شئون بلدنا بواسطة اثنين: المندوب السامي الأمريكي (قصد زلماني خليل الأمريكي ذو الأصل الأفغاني الذي يعمل مستشاراً للبيت الأبيض ومكلفاً بملف أفغانستان)، ثم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة (الأخضر الإبراهيمي) الذي لا يستطيع أن يتجاوز الخطوط التي رسمها الأمريكيون. فالاثنان رتبا اختيار أعضاء الحكومة في بون، ثم أخيرا في كابول وهما اللذان حسما أمر اختيار أعضاء اللويا جيركا، وحددا جدول أعماله، وقررا إنهاء جلسات اجتماع ممثلي الشعب الأفغاني. وهما اللذان أجلا مناقشة موضوع الدستور وإجراء الانتخابات التشريعية، لكي لا يكون للشعب صوت في إدارة شئون بلده.
أضاف الشيخ سياف متسائلاً: هل تعلم أن أحد السيناريوهات التي وضعت للويا جيركا كانت تقضي بانتخاب الملك السابق ظاهر شاه لكي ينصب على رأس الدولة، التي أرادوها علمانية، يهمش فيها دور الإسلام كما في النظام التركي. وهو ما نجحنا في إحباطه حين أقنعنا الأستاذ رباني بالانسحاب. وكانوا قد راهنوا على تمسكه بالترشيح الأمر الذي يؤدي إلى تشتيت أصوات المجاهدين بينه وبين كرزاي، ومن ثم توقعوا أن يترتب عليه فوز الملك بالحصة الكبرى. وحين عرفوا أن الشيخ رباني انسحب، فان الملك سحب ترشيحه بعده بثلاثين دقيقة. أما في تسمية الدولة فقد أيد المؤتمر بشكل ساحق تأكيد هويتها الإسلامية. وهو ما فوجئ به منظمو العملية، فقرروا إنهاء أعمال اللويا جيركا على وجه السرعة. وهو يعلق على ما جرى قال: اننا لا نعرف ما يرتب لمستقبلنا، لكن الذي لا اشك فيه أن هناك أشياء كثيرة تتم من وراء ظهورنا ونفاجأ بها بين الحين والآخر. وحين سألته عما اذا كان بذلك يعني شيئاً آخر غير الذي جرى في اجتماعات بون، قال: سأروي لك طرفاً مما صادفناه حين دخلنا إلى كابول في شهر نوفمبر الماضي. فقد كان هناك أناس من أركان حركة طالبان لا يزالون موجودين في ضواحي المدينة، ولهم سجلهم المشهود في ممارسة القمع والهجوم على قواتنا. وكان علينا بعد الدخول أن نلاحقهم ونعتقلهم شأنهم في ذلك شأن غيرهم، او عند الحد الأدنى نجردهم من السلاح، غير أننا فوجئنا وذهلنا لأمرين: الأول أن الأمريكيين طلبوا منا أن نترك بعضهم وشأنه، فلا نحاول ملاحقتهم باعتبارهم من "أصدقائهم" المتعاونين معهم، واحد هؤلاء لا يزال مقيماً إلى الآن في منطقة "وردك"، وقد أقام مؤخراً احتفالاً كبيراً بمناسبة زواج ابنه، حضره مندوب من السفارة الأمريكية!
الأمر الثاني الذي فوجئنا به أن مندوباً عن المخابرات البريطانية ذهب إلى سفارتنا في لندن، والتقى أحد مسئوليها، حيث حدثه بشأن تأمين سلامة أحد القادة الذين كانوا ضمن أركان طالبان، باعتبار أن أمره يهم الأجهزة البريطانية المعنية بالمنطقة. وقد نقلت إلينا الرسالة في حينها، ولا يزال القيادي الطالباني طليقاً حتى الآن!
(3)
كنت قد تابعت عبر الإذاعات تصريحات مستشارة الامن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس، التي قالت فيها ان الولايات المتحدة ستلقي بكل ثقلها لإعادة تعمير العراق، بعد إسقاط نظامه. وهو ما شجعني على محاولة تحري ما حدث في أفغانستان على ذلك الصعيد، خصوصاً أن التصريحات الأمريكية في بداية الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان تبنت نفس الأفكار، ربما بنفس الصياغة والمفردات، بحيث لم يتغير فيها سوى اسم المكان. وقد أسفرت عملية البحث عن المعلومات التالية:
@ لم تقدم الولايات المتحدة شيئاً لإعمار أفغانستان، ومساعداتها اقتصرت على المساعدات التي تلقاها الجيش وأجهزة الامن. أما الإعمار فقد تركته لما سمي بالدول المانحة، وهي الدول الذي شجعتها أمريكا على تقديم المساعدات المالية لنظام كابول، او تلك التي بادرت من جانبها إلى ذلك لسبب أو آخر.
@ ما قدمته الدول المانحة، التي اشتد حماسها في البداية ثم تراخى نسبياً بعد ذلك، (كانت قد وعدت بمليار و 800 مليون دولار، ولم تتلق افغانستان سوى 850 مليون دولار فقط). والتمويل الذي قدم إما استخدم في تغطية انشطة منظمات الأمم المتحدة، او وزع على الجمعيات الأهلية، أما الحكومة الأفغانية، فأنها لا تتقاضى سوى ما يغطي رواتب موظفيها، وفي المقدمة منهم رئيس الدولة والوزراء.
@ يقول المسئولون الأفغان ان ما بين 60 إلى 70% من الموارد المالية التي تقدمها الدول المانحة تستهلك في تغطية النفقات الإدارية لموظفي الأمم المتحدة والجمعيات الأهلية. وللأمم المتحدة هناك حوالي أربعة آلاف موظف، يتقاضى بعضهم رواتب تصل إلى 7 و 9 آلاف دولار في الشهر، ويستأجرون مباني ومكاتب فاخرة هم وممثلو الجمعيات الأهلية، كما انهم يقتنون سيارات جيب من احدث الطرازات اليابانية وأغلاها ثمناً.
* النتيجة أن الإعمار يتحرك ببطء شديد للغاية، ليس فقط بسبب كم الخراب الموجود، ولكن أيضاً بسبب شح الموارد التي تصرف في هذا الاتجاه. وبسبب من ذلك فان تطوراً طفيفاً للغاية طرأ على المشهد الأفغاني من هذه الزاوية خلال الأشهر العشرة الأخيرة.
@ النتيجة الأخرى الأسوأ انه إزاء تدهور الأوضاع الاقتصادية فان كثيرين عادوا إلى زراعة الحشيش والأفيون، وهي العملية التي كانت قد تراجعت كثيراً في أواخر حكم طالبان، حتى عادت أفغانستان الآن مرة أخرى كأحد المصادر المهمة لزراعة المخدرات.
الخلاصة التي يخرج بها المرء من متابعته للمشهد الأفغاني في هذه الزاوية أن الاهتمام الدولي بشكل عام والأمريكي بوجه أخص، موجه في أفغانستان نحو الوضع الأمني والشق السياسي، أما ما هو اجتماعي واقتصادي وإنساني، فلا يبدو أن هناك جهة معنية به، وهو أمر يمكن أن يسفر عن أوضاع كارثية مع قدوم فصل الشتاء.
(4)
ليس مستغرباً والأمر كذلك أن يبدأ التململ في الظهور في أوساط النخبة الأفغانية، بل وفي داخل بعض قيادات التحالف ذاته، الذي يضم شرائح من المناضلين المخلصين الذين بدأوا يتساءلون: إلى متى ستظل أفغانستان تحت الوصاية الأمريكية؟ - وما قاله الأستاذ رباني في هذا الصدد لا يختلف كثيراً مما يقوله الشيخ سياف، وما يهمس به بعض المسئولين في الحكومة ذاتها. وكما ذكرت من قبل فان هذا الموضوع يمثل أحد مصادر الخلاف داخل النخبة الحاكمة في كابول.
حين حاولت البحث عن إجابة السؤال وجدت أن كثيرين يقولون أن الأمريكيين لا يعتزمون الرحيل في الأجل المنظور، وان مدة بقائهم يقدر لها أن تستمر ما بين عشر إلى عشرين سنة. وحين سألت عن الأساس الذي بني عليه ذلك التقدير، كان الرد أن بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي صرحوا للصحفيين بذلك أثناء زيارة قاموا بها قبل حين للعاصمة الأفغانية. وأضاف آخرون ان الكلام تؤيده طبيعة المنشآت الضخمة التي يقيمها الأمريكيون في قاعدة بجرام العسكرية، التي تبعد حوالي 50 كيلو متراً عن كابول، ويمنع على الأفغان والأجانب الاقتراب منها. ليس هذا فقط، وإنما يتحدث الدبلوماسيون والمطلعون على ما يجري في الكواليس عن مساع أمريكية لنشر قوات لهم في ولاية "بدخشان" الطاجيكية المتاخمة للصين، بحجة متابعة نشاط عناصر القاعدة وطالبان، في حين أن الجميع يعرفون أن تلك العناصر لا يمكن أن تلجأ إلى هذه المنطقة، لسبب جوهري هو أنها خاضعة بالكامل، حتى في عهد حكومة طالبان، لقيادة التحالف الشمالي، وليس هناك عاقل يمكن أن يتصور احتمال احتماء او اختفاء عناصر القاعدة وطالبان في ولاية يفترض أنها "معادية" لهم تماماً. لذلك فالمرجح أن الأمريكيين يريدون بالتواجد في تلك المنطقة أن يبعثوا برسالة إلى الصينيين، تعلمهم انهم يقفون بالباب. كما أنهم يريدون أن يحولوا دون احتمال مساندة الصين لأية معارضة أفغانية للوجود الأمريكي، وكانت بكين قد قامت بذلك الدور الذي كان فعالاً، إبان الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. وهو الجهد المحجوب والمسكوت عليه إلى الآن، في حين سلطت كل الأضواء على الدور الأمريكي في دعم مقاومة السوفييت.
من أنباء كابول أيضاً في هذا الصدد أن القوات الأمريكية ترتب الآن وجوداً آخر في ولاية هيرات، (في بلدة "دوبوشتا"، التي تبعد بمسافة 40 كيلو متراً عن الحدود مع إيران). وقد أقام الأمريكيون بالفعل ثكنة عسكرية هناك، وبثت وكالة رويترز تقريراً في 24/9 أكد هذه المعلومات، وأضاف ان الأمريكيين بدأوا يفاوضون سكان بلدة دوبوشتا في شراء ارض بالمنطقة لكي يقيموا عليهما أبنيتهم. وترتيبات من ذلك القبيل حين تقوم بها الولايات المتحدة تجاه الصين او إزاء إيران، وكل منهما له شأنه المعلوم. لا يقدم عليها قوم عابرون او راحلون. ولكنها جزء من الإعداد للبقاء الطويل في مناطق ما كان يحلم المخطط الاستراتيجي الأمريكي أن يبلغها يوماً ما.
(5)
لا تكاد ترى القوات الأمريكية في كابول، حيث الوجود المنظور مقصور على القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي تجوب سياراتها شوارع العاصمة طول الوقت، وتؤمن مواقعها الاستراتيجية. لكن الوجود الأمريكي كله خارج العاصمة. ولان القوات الدولية وجودها رمزي، وصلاحياتها محدودة للغاية، فان دورها له من التأثير الأدبي والمعنوي اكبر مما فيه من الدور العملي او المادي. لذلك فان وظيفة القوات الدولية في كابول هي اقرب ما تكون إلى مهمة "المحلل" الذي تحتمي به وتتخفى وراءه العمليات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة خارج العاصمة في البر ومن الجو. وبقدر ما أن أيدي القوات الدولية شبه مكبلة في داخل كابول، فان الأيدي الأمريكية مطلقة ومخولة في فعل أي شيء في كافة أنحاء أفغانستان. فهي تقصف المواقع وتدك المغارات وتهدم القلاع وتحاصر القرى، وتقتل لأي شبهة، وتحتجز كل من تشك فيه، وكثيراً ما قصفت بيوتاً وتجمعات، وقتلت عشرات من البشر، بسبب أخطاء في التصويب او في التبليغ. ولان نشاط الأمريكيين وعملياتهم يتركز خارج العاصمة، فما تفعله يظل بعيداً عن الأعين، وما يصل من أفعالها وأخبارها إلى العاصمة، إما انه يأتي متأخراً او مبتسراً ومعدلاً من جانب الحكومة والاجهزة المعنية. والأصل أن القيادة الأمريكية تتحكم في الاخبار المذاعة، من ثم فليس كل ما يحدث يقال وينشر، لان الحرص شديد في واشنطون على أن تخفف للغاية كافة الاخبار المتعلقة بالخسائر الأمريكية في أفغانستان، لان معرفة الحقيقة من شأنها أن تحدث أصداء سلبية لدى الرأي العام الأمريكي، الأمر الذي قد يؤثر بالسلب ليس فقط على الحملة العسكرية في أفغانستان، ولكن أيضاً على الحملة المفترضة على العراق، بل على مستقبل الرئيس بوش ذاته. حين كنت هناك كان الجميع يتحدثون عن إسقاط طائرتي هليكوبتر أمريكية ومقتل تسعة من ركابها العسكريين. لكن الحادث تم التكتم عليه بسرعة، ولم تشر إليه وسائل الإعلام من قريب او بعيد. وهذا الحادث ليس فريداً في بابه، رغم أن الخسائر فيه اكبر بصورة نسبية من غيرها في حالات أخرى. ذلك أنه لا يكاد يمر أسبوع إلا ويقتل او يخطف فيه جندي أمريكي او اكثر، او يحدث هجوم على موقع او قافلة للقوات الأمريكية، او يكتشف كمين يستهدف الأمريكيين. الأمر الذي لا يعرف في ظله إلى أي مدى يمكن احتمال وضع من ذلك القبيل. طالعت رسماً كاريكاتورياً صور الورطة الأمريكية، نشرته صحيفة هيرالدتريبون في منتصف شهر سبتمبر الماضي، وفيه العم سام (الأمريكي) وقد أطبق على رجله فخ حاد الأسنان كتبت عليه كلمة "أفغانستان"، بينما يهم بوضع رجله الأخرى في فخ ثان يحمل اسم العراق، في حين يمسك الأمريكي في يده بمطرقة كبيرة يريد أن يهوي بها على رأس الرئيس صدام حسين، القابع في قلب الفخ العراقي. غير أنى سمعت من أحد الأفغان تصويراً آخر للورطة ربما كان اكثر دقة. فقد قال صاحبنا ان الأمريكيين في أفغانستان كمن "بلع الموسى"، لا هو قادر على هضمها، ولا هو قادر على استخراجها والخلاص منها. والله اعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.