الثاني والعشرون من شهر سبتمبر عام الثاني والثلاثين و ألف وتسعمائة للميلاد . تاريخ له وقع في النفوس .. نفوس المواطنين الذين فتحوا أعينهم خلال فترة الثلاثة أرباع القرن التي تفصلنا عن ذلك التاريخ لا يعرفون من مآثر هذه الحقبة إلا انها حقبة أمن وعلم ورخاء مادي وثقافي وصحي .. أي انهم عاصروا نهضة عامة شاملة بكل مظاهر الحياة المادية والدينية دون أن يعلموا ما قبل ذلك إلا ما درسوه من سجلات التاريخ وصحائف الماضي الذي لا تزال بعض شوائبه عالقة بأذهان بعض المسنين كجزء من الذكريات التي مسحت سيئاتها حسنات الواقع الذي يتفيأ ظلاله أبناء جيلي ومن سبقهم قليلاً ومن جاء في أحضانهم قبل ذلك التاريخ بحوالي نصف قرن كانت الجزيرة العربية على امتدادها من صحراء الدهناء إلى الربع الخالي إلى النفود مهامه مهلكة . لا شجر ولا ماء ولا سكان يطمئن إليهم .. وكانت القبائل البدوية تقطع تلك الفيافي على ظهور الخيل والجمال وعلى الأقدام في اغلب الأحيان واهم أثاث يحمله البدوي في تلك المغاور سلاحه . الذي يدافع به عن نفسه أحياناً ويهاجم به في كثير من الأحيان لتامين قوته وقوت من حوله من الأبناء والأحفاد والعشيرة لا يهمه دين ولا ترهبه دولة ولا يزعه ضمير .. وحيث يوجد البدوي المتسلح بالولاء للقبيلة البعيد عن خطة التعليم والتنظيم لا يوجد أمن .. وما لم يوجد أمن فلن يكون هناك مشروع حضاري يستشرف آفاق المستقبل وقد اكسبت طبيعة الصحراء الملك عبدالعزيز رحمه الله ومعرفته لقبائلها وتضاريسها وأسلوب حياتها خبرة نافذة للتصدي لكل ما يعطل مشروعه الحضاري الذي حقق الوحدة وقضى على التفرقة . ومزج أجزاء البلاد مدنها وقراها سواحلها وصحاراها .. قبائلها وأفرادها .. علماءها وجهالها في بوتقة واحدة تدين بالولاء لهذا الوطن وترفع راية التوحيد في كيان واحد يمتد من سواحل الخليج العربي إلى سواحل البحر الأحمر . ومن حدود الشام إلى حدود اليمن تحت اسم المملكة العربية السعودية . وكانت أمام الملك عبدالعزيز مهمتان أساسيتان هما : 1 المحافظة على هذا الكيان ووحدته السياسية، والدفاع عنه بكافة الوسائل المشروعة . 2 الانطلاق نحو المستقبل، ومتابعة مسيرة الحضارة التي سبقتنا إليها كثير من البلاد العربية المجاورة آنذاك . وهذان المطلبان لا يتحققان إلا باستتباب الأمن . والأمن لن يحقق في ظل الجهل والبطالة والفقر فكان توطين البادية أول مشروع حضاري انطلقت منه قوافل التنمية التي نشهدها الآن وتحول ذلك البدوي الذي يجوب الصحراء لا يملك إلا راحلته إلى طيار يجوب أجواء الفضاء .. وقبطان يخوض عباب البحار وأستاذ في الجامعة .. ومدير لمدرسة .. وصانع في مصنع وعامل في معمل .. وقائد في الجيش .. وضابط في الأمن فماذا تبقى لديه من تلك العصبية القبلية ؟ لم يبق لديه منها إلا ما اشتهر عن العربي من الكرم والشهامة والنجدة والمحافظة على شرف القبيلة وسمعتها الطيبة، والتمسك بهذا الدين . إذا .. لقد أتت تلك البذرة الطيبة التي دفنها عبدالعزيز في كثبان الدهناء والنفود أكلها . وأصبحت ظلالها وارفة .. يتفيأها كل مواطن يدين لهذه الدولة بالولاء والإخلاص والمحبة . وعن هذا يقول الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس في كتاب (المجاز بين اليمامة والحجاز) ما يلي : (والشيء المعجزة حقاً هو أن يتصدى ذلك العبقري لهذه المشكلة وان يشخص لها العلاج الحاسم، ولم يكتب له أن يعكف على دراسات اجتماعية، وان يبدل أسس الحياة في محيطه، وعلى نحو لم يسبق له مثيل في بلاده عبر العصور والأجيال الطويلة، دون أن يكون متأثراً بنتائج محاولات مماثلة، في أي بلد آخر، وفي وقت لم يكن لديه المال الذي يكفي لمستلزمات هذا التحول، وان يضطلع بمشروع اجتماعي واقتصادي جبار هو الأول من نوعه من غير أن يستعين بخبراء، والأعجب من هذا انه اخذ ينفذ هذا المشروع الطموح الحضاري وهو مازال يخوض معارك استرداد أقاليم الدولة، ان من اجل الأعمال إيجاد شعور جديد يحل محل الشعور القبلي والشعور الفردي المتوارث ) نعم إنها عبقرية الصحراء التي تعاملت مع معطياتها بفن يفوق كل ما ألف عن علم الاجتماع من كتب ودراسات أكاديمية. حيث تحول توطين البادية من وسيلة للاستقرار الحضري إلى اعظم مشروع استيطاني في العصر الحديث خصوصا بعد أن تحولت تلك الهجر التائهة في مجال الصحراء إلى مدن وقرى كبيرة تخترقها الطرق الحديثة . وكذلك وسائل الاتصال التي تربطها لا بأنحاء المملكة فحسب بل بجميع أنحاء العالم . وكانت الخطوة العملاقة في تاريخنا الحديث هي النهوض بالتنظيم الإداري فبعد أن لم يكن على رأس الحكومة بعد الملك سوى وزير واحد هو وزير المالية أصبحت الدولة في بدايات التنظيم تضم وزارات تفرضها الحاجة الأمنية والصحية إلى جانب وزارة المعارف التي أسندت إلى خادم الحرمين الشريفين كمؤسس للنهضة العلمية الحديثة ومكملة لدور العلماء ورجال الدين الذين كانوا يلقون دروسهم في الحرمين الشريفين ومدارس الوعظ والإرشاد . ومديرية المعارف الاميرية آنذاك وكانت عين الله سبحانه وتعالى ترعى هذه المنجزات وقائدها الحكيم الذي حمل الامانة وتفانى لها في الحفاظ عليها فحسب بل وتطويرها لتصبح شعلة مضيئة أمام الأجيال الذين قطفوا ثمار تلك النهضة وعاشوا في بحبوحتها . أراد الله سبحانه وتعالى أن يكافئ ذلك القائد الحكيم وشعبه الوفي بان فجر تحت أقدامهما حقول البترول الذي عرف فيما بعد بالذهب الأسود .. فكان في ذلك الرخاء والنماء الذي شمل كل مرافق الحياة ونقل أبناء الجزيرة العربية إلى مشارف القرن الواحد والعشرين مشاركين في كل مجالات التقنية والاستفادة من كل كشف علمي جديد يحقق لهم الرقي ولبلادهم التقدم والاستقرار ولاشك أن تفجر البترول أعطى الدولة السلاح المادي الذي استطاعت به أن تمد يد الإصلاح الى كل مرفق من مرافق البرنامج النهضوي الذي تغيرت بموجبه أطر الحياة العامة ليكون لها ذلك الثقل السياسي والاقتصادي والثقافي في عالم اليوم والغد . واعتقد إن هذا ما عناه الملك المؤسس عبدالعزيز - طيب الله ثراه - عندما قال : " إن المدنية الصحيحة هي التقدم والرقي، والتقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل، إن حالة المسلمين اليوم لا تسر وان الحالة التي هم عليها لا يقرها الإسلام، يجب على المسلمين أن يتدبروا موقعهم جيداً، ويعملوا على تطهير قلوبهم من الادران، التي علقت بها، فان الموقف دقيق والله ينصر من أراد نصر دينه " . كما إن هاجسه الذي توفي وهو يحمل همه . ويتمناه هو توحيد كلمة العرب والمسلمين ويعزو ما أصابهم من ضعف وخذلان في العصر الحديث إلى تفرق كلمتهم وتشتت آرائهم . وهذا ما عناه يرحمه الله بقوله : " المسلمون من الله عليهم بالإسلام واجتماع الكلمة، ولكن لما تفرقوا انخذلوا وسلط الله أعداءهم عليهم، وإذا رجع المسلمون إلى تعاضدهم وتكاتفهم رجع إليهم عزهم ومجدهم السالف، وقد قال الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . ان 22 سبتمبر من كل عام ذكرى تمر بنا كل عام .. وبدلاً من الاحتفالات الصاخبة والطنين الأجوف كنا نقف وقفة تأمل لنقارن بين ما كان وما تحقق خلال ذلك التاريخ المجيد .. انه عيد تعزف فيه القلوب على قيثارة الولاء والحان المودة والوفاء لهذا الوطن ولقادته الساهرين للحفاظ على كل ذرة من ترابه وكل قطرة من دماء مواطنيه وكل قطرة من مياهه وكل نسمة من هوائه .. ذلك الوطن الذي شهد الكثير من قوافل الخير تثرى منطلقة من نقطة البداية لتعم أنحاء العالم الإسلامي تمد يد العطاء الذي يرسخ أسس العقيدة ويرفع شعائر الإسلام في كل بقعة من بقاع الأرض خاصة في هذا العهد الميمون الذي تسلم فيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز سدة الحكم فهو الذي عمل جاهداً ولا يزال على تحقيق تلك الأماني والتطلعات الكبيرة التي كان يرنو إليها المؤسس عبدالعزيز . الذي وضع نصب عينيه منذ ذلك التاريخ العمل الجاد الهادف لبناء هذا الوطن الذي نعيش في بحبوحته ونتفيأ ظلال أمنه وأمانه وما ينعم به من رخاء وازدهار . فكان هذا العهد عهد خادم الحرمين الشريفين عهد تحقيق كل الخطط الخيرة الشاملة لكل مرفق من مرافق الحياة . والأمل في الله أن يوفق حكومتنا الرشيدة لمواصلة المسيرة الخيرة لتحقيق ما فيه خير العباد والبلاد والى اللقاء في الذكرى القادمة وكل عام وانتم بخير .