الأمة جريحة. والبلد جريح. والوطن ينازع. وأمامنا خياران لا ثالث لهما، فاما ان نرحل ونغادر فنصبح لاجئين، واما ان نفعل شيئاً من اجل بلدنا. لقد عقدنا العزم على البقاء ومداواة الجروح . الدكتور عبدالله عبدالله الطبيب الجراح ووزير خارجية أفغانستان بين الهجوم على برجي مركز التجارة في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن يوم 11 ايلول الماضي، والهجمة التي تعرضت لها الكنيسة في باكستان الاسبوع الماضي، رابط كشف مقدار الجهل الذي يعمي الأبصار. وهذا الجهل ليس محصوراً في بلد معين، او شعب معين او طائفة دينية معينة. ففي الوقت الذي يركّز الاعلام الامريكي على زمرة ابن لادن، وتستنهض واشنطن امم العالم اجمع للتضامن معها انتقاماً لضحايا 11 ايلول الاسود بضرب ابن لادن وافغانستان بالقنابل والصواريخ المدمرة، يغير مسلحون مقنّعون على الكنيسة الباكستانية ويقتلون من يقتلون، من رجال ونساء وشيوخ واطفال لا يميّزهم شيء عن امثالهم الذين تقتلهم القنابل والصواريخ الامريكية التي تنهمر على كابول وقندهار ومزار شريف وسواها. وثمة من يرى في أحداث 11 ايلول وما اعقبها من صدمات واوجاع واندهاشات في انحاء العالم، وجوهاً ايجابية تفوق وجوهها السلبية، هي انها فتحت العالم على بعضه البعض بطريقة صارخة، بعدما كان العالم معتبراً، بفضل تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، قرية كونية صغيرة، ولكن تسكنها جماعات منفصلة عن بعضها البعض في منازل منعزلة. ولولا احداث 11 ايلول لما ظهر الطغيان الحقيقي للعولمة وللحكم الاحادي للعالم والتصرف حياله كأنه قطيع واحد، تديره آلة من بعيد لا عقل لها ولا قلب، يهمها من هذا العالم تأمين مصالحها الاستراتيجية وتأمين اسواق لمنتجاتها. تنقل خيرات العالم الى اراضيها، وتعطيه في المقابل آلات واسلحة لا تلبث ان تتحول خردة، وسلعاً لا تُشبع، مما يبقي خمس سكان العالم في حال فقر مدقع. ومع احداث 11 ايلول ظهر هول الهوة التي كانت آخذة بالاتساع بين الجنوب والشمال. فبعدما كانت الهوة جغرافية، بين الجنوب الزراعي الفقير والامي والمتخلّف - رغم غنى بعض بلدانه بالثروات الطبيعية مثل النفط والذهب والالماس والغابات - اصبحت الهوة اقتصادية مع العولمة وانتقال الشركات المتعددة الجنسية الى البلدان الغنية بالعمالة الرخيصة. ثم تحوّلت الهوة رقمية بعد الثورة التكنولوجية، وسيطرة انظمة المعلوماتية على كل نواحي الحياة، بحيث بات الدماغ الالكتروني ومعرفة التعامل معه وانتاج المعرفة عبره مصدر الثروة الاساسية. ومن لم يتعلم كفاية، وخصوصاً لغات حية، لا يستطيع توفير عيش كريم له ولعائلته، وان توافرت له القدرة على اقتناء الآلة. علماً ان الغالبية العظمى من اهل الجنوب غارقون في الامية، فضلاً عن انهم عاجزون عن اقتناء الآلة التي تصنع المعرفة. لقد شعر اهل الجنوب مطلع الالفية الجديدة انهم امام طغيان جبّار، واستعمار لا شبيه له في التاريخ. الا ان اهل الجنوب، ومعظم الدول الاسلامية هي في هذا الجزء من العالم، لم يسألوا انفسهم يوماً: لماذا نحن فقراء؟ وحتامَ نستمر في هذه الدوامة؟ وماذا يجعل الشمال ارضاً للاغنياء؟ وبدل ان تتركز الأجوبة على سبل الخروج من الفقر وانتاج الثروة، راح هؤلاء يتقاسمون الفقر فيما بينهم، متجاهلين الاسباب التي قد تكون في التقوقع وعدم الانفتاح على المعرفة والتجريب والاختبار الحر اللذين مارسهما عالم الشمال. كذلك لم يحدث تساؤل حول الدور المحتمل للمعتقدات الدينية في هذا المجال، وتقييدها حرية البحث والاختيار، علماً ان مثل هذا الامر حصل في القرن الخامس عشر مع غوتنبرغ عندما اخترع الاحرف المنفصلة التي ادت الى اختراع المطبعة واطلاق اكبر ثورة معرفية في التاريخ، رغم اعتراض رجال الدين، ثم مع غاليليه في القرن السادس عشر عندما قال ان الارض كروية وليست مسطحة، بحسب المعتقدات الدينية، وانها تدور حول نفسها مرة واحدة في السنة وحول الشمس 24 ساعة في اليوم، خلافاً للمعتقدات السائدة كذلك. واستمر الامر كذلك، ورافقه اضطهاد مسيحي - مسيحي في اوروبا عبر محاكم التفتيش، الى ان ثارت الشعوب على ملوكها وحكامها، ورجال دينها احياناً. وجرى فصل الدين عن الدولة، وإطلاق الحريات، واعتبار الشعب، لا الكنيسة مصدر السلطة. وان ما حصل مع ابن لادن و الجهاد هو فصل للاسلام عن الطبيعي المادي، وتحميل التقدم العلمي والتكنولوجي مسؤولية الفقر والجوع والظلم الذي تعانيه شعوب الجنوب وبعض شعوب الشمال التي انتقلت اليها اجزاء كبيرة من مجتمعات الجنوب طلباً للعلم والعمل والحياة الكريمة. لذلك حصل انقضاض على رموز هذا العالم في 11 ايلول بدل الالتفات الى اسباب التخلّف فوق ارض الجنوب، وفي قصوره وسراياته، وفتح مدارس للتعليم ومحو الامية، واستغلال العقول والثروات الطبيعية لمنفعة الناس وترقيتهم. وهذه المسيحية المتهودة هي التي تلتزم امن اسرائيل وتزود حكام تل ابيب بالسلاح لتقتل به الفلسطينيين بعد تشريد اكثر من ثلاثة ملايين منهم عام 1948 تمهيداً لاعادة بناء الهيكل . واشهر القساوسة البروتستانت في التزام الدفاع عن نظرية البعث اليهودي في فلسطين وليم بلاكستون الذي جمع عام 1891 تواقيع 413 شخصية امريكية تأييداً لاقامة وطن يهودي في فلسطين. وقد وافق الكونغرس عليها في حينه. لذلك كان ايمان الصهيونية المسيحية قبل تأسيس دولة اسرائيل، بعودة اليهود كشعب الى ارضه الموعودة في فلسطين ، واقامة كيانه الوطني في ضوء هذا المفهوم للمسيحية الامريكية يصعب القول ان الحرب الافغانية هي حرب مسيحية - اسلامية. وهو يستدعي تضامناً مسيحياً - اسلامياً، في فلسطين كما في لبنان وامريكا، لجبهة المسيحية المزيفة، والكف عن تحميل التقدم مسؤولية الفقر والظلم في العالم، وسلوك طريق المعرفة والعلم والقضاء على الجهل في المجتمعات المسلمة، واكتشاف المعوقات وازالتها. فالحرب المزعومة هي حرب مستحيلة. عن ( النهار ) اللبنانية 5 تشرين ثاني - نوفمبر 2001