روى ابو الفرج علي بن الجوزي في كتابه (الأذكياء) قال : قال ابن القصاب الصوفي دخلت البيمارستان (المشفى) فرأيت فيه فتى مصابا، فقلت له : (من السخي؟ قال الذي رزق أمثالكم وأنتم لاتساوون قوت يوم..) ترى ما هو وقع هذه العبارة الصاعقة التي تختزن داخلها كل ذلك النقد المر اللاذع المباشر على المتلقي او السامع، لو لم يكن قائلها فتى غلبان يسكن المارستان؟. للحقيقة مذاق لايستساغ احيانا. ومن المؤكد ان السامع سيثور، ويقيم الدنيا ولن يقعدها، لو ان قائل تلك العبارة اللاذعة احد العقلاء. اما وان القائل فتى مجنون فان ردة الفعل لا تعدو ان تكون ابتسامة، او ربما ضحكة مجلجلة نابعة من القلب، صاخبة صخب العبارة نفسها. اما اذا كانت ردة فعل السامع غاضبة، هادرة، منذرة بالويل والثبور، وعظائم الامور، فقد جاز لفتى المارستان ان يقول لابن القصاب الصوفي: كان هنا مجنون واحد، واصبحنا الآن اثنين). لكن الناس تتقبل الحكمة، كما تتقبل النقد اللاذع، من أفواه المجانين والحمقى. تتقبل النقد مزيجا من الفوضى والنظام، والمعنى واللامعنى، والجنون والحكمة، والعته والفلسفة، والهزل والجد. ولا بأس ان يأتي النقد على لسان رجل مصاب بلوثة في عقله يقول : (جنوني مكشوف وجنوكم مستور..). وقد كان المارستان دائما (هايد بارك) الأزمنة والأمكنة الذي يقال فيه ما لا يقال خارجه، ويجوز لساكنه ما لا يجوز لغيره. ويبدو ان مثل هذه الحصانة المارستانية قد اغرت بعض العقلاء فسلكوا دروب التحامق، لكل واحد منهم اسبابه ودوافعه وظروفه الخاصة. وقد روى الشيخ ابو القاسم النيسابوري (406ه) في كتابه (عقلاء المجانين) حكايات عديدة لمن تحامق وهو صحيح العقل. اما ليكسب مالا، او ليطيب عيشا، او ليتفادى مأزقا، او لانه ضاق ذرعا بدنيا العقلاء. اما النقد خارج اطار هذه الشروط المارستانية فيكاد يكون شكلا من اشكال الجنون المرفوض، او ضربا من المستحيل، يضاف الى المستحيلات الثلاثة التي اشار اليها الشاعر. ذلك ان الافراد والمؤسسات بكل اشكالها اكثر ميلا الى تقبل الاطراء والمديح. وديوان الشعر العربي زاخر بأطنان من قصائد المديح والمصانعة التي تنوء بحملها الذاكرة. المديح الذي يقلب الاسود ابيض، والظلمة نورا، والعي بلاغة، والبلاهة ذكاء، والحماقة فطنة، والثقل خفة.. وحدث ولا حرج! اما الهجاء الاجتماعي باعتباره موقفا نقديا يرصد الواقع، ويشير الى التناقضات الاجتماعية، فهو قطرة من بحر، قياسا بذلك الكم الهائل من شعر المديح والتلميع والمداهنة. وازاء هذه الورطة المزمنة، لم يجد بعض النقاد مشجبا يعلق عليه اسباب الفشل او التخلف الا الشعر. هكذا اخذ الشعر بجريرة الشعراء، ليتحول الضوء الى ظلمة، والدواء الى داء، وجسر التجاوز الى سبب من اسباب الاعاقة والتخلف. وحين يكون التشخيص خاطئا، تصبح الوصفة العلاجية خاطئة، وتراوح العلل والادواء مكانها لكن هذا ليس موضوعنا. حين يصبح النقد الذاتي مستحيلا آخر، فان الاشياء لاتسمى بأسمائها الحقيقية، فهنالك دائما اسماء اخرى ترضي الغرور، وتدغدغ المشاعر، وتجبر ما انكسر من الخواطر، وتشيع حالات من الرضا عن الذات. فالاخفاق، مثلا، يجد تسمية اخرى تطمئن بها النفوس. فقد يصبح شكلا من اشكال التريث، والاناة، والمراجعة، واعادة النظر، والكر والفر، والالتفاف على الظروف.. الى آخر القائمة. ومعاجم اللغة زاخرة بما حسن وطاب من المفردات السراب. هكذا تنمو المفردات وتتكاثر وتتصاعد، وتنأى مع مرور الايام عن معنى المفردة الاولى. حتى يصبح الاخفاق، في نهاية المطاف، نجاحا او انجازا خارقا للعادة. ان الاطراء، كما يقول احد المفكرين "وحش في ثياب صديق" لأنه يكرس اسباب الخلل بدلا من ان يشخصها، تمهيدا لعلاجها. حين يصبح النقد الذاتي مستحيلا، فهنالك دائما عوامل اخرى تعمل ضدنا، لتعيق تحركاتنا. وتجهض احلامنا، وتئد تطلعاتنا. وهي دائما خارج نطاق الذات. بدءا بالطقس وسوء الاحوال الجوية، ومرورا بالقوى الوهمية الخفية المتربصة، وانتهاء بالحظ العاثر. والتشخيص الخاطئ غالبا ما يقود الى وصفات علاجية خاطئة، تكرس الداء، او تعمل عمل المسكنات المؤقتة. ان كثيرا من الابداعات الادبية والفنية هي نقد لآليات الواقع الاجتماعي هدفه اعادة ترتيب البيت البشري، وتسمية الاشياء بأسمائها الحقيقية. وبين الابداع والجنون كما يقال خيط رفيع. لكن، في الوقت الذي يعجز الذهاني او العصابي عن السيطرة على حالته النفسية، او الافادة من امكانياته العقلية، فان الفنان المبدع قادر على المحافظة على توازنه النفسي، وعلى تسخير قدراته العقلية للتواصل الابداعي البناء. وقد اشار الى هذه المسألة بالتفصيل شاكر عبدالحميد في كتابه (الأدب والجنون). لكن الاديب قد يلجأ احيانا الى اختراع شخصيات حمقاء او تتحامق ليتخذها وسيلة لتلك الحصانة المارستانية، لممارسة شكل من اشكال النقد الذاتي، وتعرية كثير من الممارسات والسلوكيات الخاطئة، وايصال رسائل لا يستطيع ايصالها الاسوياء. وقد لجأ الى تلك الحيلة كثير من الكتاب الكبار في مختلف العصور، فاختاروا ضميرا مستترا احمق او يتحامق للغرض ذاته. واشهر هؤلاء الشيخ الاديب محمد بن احمد ابي المطهر الازدي (نهاية القرن الثالث الهجري) الذي اخترع شخصية ابي القاسم البغدادي العجائبية، ووظفها توظيفا ادبيا بديعا، لرصد كثير من التناقضات والممارسات الخاطئة السائدة في مجتمعه آنذاك. لكن ، وبالرغم من تعاقب القرون، فان الحال لم تتحسن إلى الحد الذي يمكن فيه الاستغناء عن سماع او قراءة حكاية ابي القاسم البغدادي.