تناول الكاتب بدر عبدالله الصالح في الحلقة الأولى ضمن بحثه عن "تقنية التعليم" فقدان هذه التقنية للهوية، بالإضافة إلى عناوين أخرى، كان أبرزها: تقنية الآلات والمنظومات، الجوانب الملموسة من التقنية، والسلوك المدخلي لهذه التقنية، مبادئ علم الجودة والتقنية والإصلاح التربوي.. ويتناول في الجزء الثاني والأخير الذي ننشره اليوم عناوين أخرى، من أهمها: تطوير برامج تقنية التعليم، برامج التدريب، التعليم والبحث والنشر العلمي، خدمات تقنية التعليم، بالإضافة إلى عناوين أخرى: تقنية التعليم وتطوير برامجها الوجه الشائع لتقنية التعليم أنها على هامش البرامج التي تستحق التطوير والتجديد، ولذا، ليس غريباً أن تبقى مناهجها ومقرراتها وبرامجها سنين طويلة دون أن تتأثر بما يحدث على الساحة العلمية والفكرية. وإذا أجزنا لأنفسنا أن نحسب الفجوة بين التطبيق الحالي لتقنية التعليم على المستوى الأكاديمي المحلي والإقليمي العربي، وبين نظيراتها على الساحة الدولية بالسنوات لأمكن أن تصل إلى حوالي 4 عقود من الزمن. بل حتى نمو الطاقة البشرية المختصة بطيء جداً، فأعداد المختصين في المجال محدودة إلى درجة كبيرة مقارنة بأغلب التخصصات التربوية. وفي الوقت الذي تمتع فيه مجال تقنية التعليم على المستوى العربي بدعم ملحوظ ولسنوات عدة من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من خلال مركز التقنيات التربوية الذي كان يتبعها ومقره الكويت والذي بدأ قوياً في مجالات النشر العلمي والتأليف والترجمة والتدريب، لم يقدر للمركز أن يستمر فطويت أوراقه وجفت أقلامه. المحور الخامس: تقنية التعليم وبرامج التعليم عن بعد: تقنية التعليم في وجهها الشائع لا ينبغي أن تكون على خارطة تصميم برامج التعليم عن بعد أو التعليم المفتوح، وإنما هم فقط خبراء المناهج والتربية من يمكنهم إقامة هذه الصروح العلمية الحديثة. ولذا، فحتى دعوات الحضور والمشاركة في ندوات التعليم عن بعد ومؤتمراته ينبغي أن توجه إلى المختصين في فلسفة التربية وأصولها والمناهج ومجالاتها، لأن اطروحات هؤلاء المتكررة حول فلسفة هذا النوع من التعليم ومبرراته ومجالاته العلمية هي حجر الزاوية في تصميم برامجه وتنفيذها. بل إنه ما دام المختص في تقنية التعليم ليس خبيراً في المناهج أو أصول التربية، كما أنه بالتأكيد ليس خبيراً في تركيب الأجهزة أو تشغيلها، فمن الأفضل تنحيته جانباً أو عدم التفكير به أصلاً. الوجه الآخر لتقنية التعليم في برامج التعليم عن بعد، يؤكد من واقع التجارب العالمية والدراسات، أن هذه البرامج لا يمكن أن تحقق أهدافها في غياب تقنية أو تصميم التعليم في الجامعة البريطانية المفتوحة على سبيل المثال، وهي أكثر نماذج التعليم المفتوح نجاحاً في العالم، يضطلع معهد تقنية التربية (Educational Technology Institute) بالدور الأساس في تصميم برامج الجامعة من مقررات ومناهج، حيث يشارك مصممو التعليم في تحديد مواصفات تلك المقررات والمناهج جنباً إلى جنب مع خبراء المواد الدراسية من خلال أسلوب فريق المقرر (Course Team). وعندما أرادت الجامعة إلغاء هذا الأسلوب بسبب استقالة حوالي 20 بالمائة من أعضاء هيئة التدريس فيها بسبب عدم تأقلمهم معه ناضل مصممو التعليم للحفاظ عليه، حتى ربحوا الرهان، واستمر الأسلوب المذكور ليصبح مثالاً رائداً لتصميم التعليم. ومن بين الاتجاهات المعاصرة في مجال تقنية التعليم، اتضح أنه لا يوجد أي اتجاه آخر يتضمن النظرية والتطبيق في تقنية التعليم كما يتضمنه التعليم عن بعد. برامج التدريب تقنية التعليم في وجهها الشائع لا تتعدى (إن سمع لها صدى) حدود المؤسسات التعليمية عموماً والأقسام الأكاديمية خصوصاً. وبعبارة أخرى، هي تخصص أكاديمي يتقوقع في أروقة الكليات والجامعات، ولا يمتد تأثيره (إن كان له تأثير) خارج أسوار المؤسسة التربوية. ويجد خريجو برامج التصميم التعليمي فرصاً وظيفية أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً أن صناعة برمجيات الحاسوب توظف هؤلاء للقيام بنقل المعرفة من خبراء الموضوعات الدراسية وتحويلها إلى تقنيات سهلة الاستخدام وفي هذا السياق يذكر سالزبري أن الشركات الأمريكية التي تنظم برامج تعليم وتدريب لعامليها وجدت في تقنية التعليم طريقة فعالة لجعل التعليم اقتصادياً ويتسم بالكفاءة والمتعة مقارنة بالطرائق التقليدية. وفي عام 1994م صرفت الشركات في الولاياتالمتحدة أكثر من 50 بليون دولار على تعليم وتدريب موظفي القطاع الخاص، وأن كثيراً من هذه الشركات تعتمد على عملية تقنية التعليم لتوفير برامج أكثر فاعلية. التعليم والبحث العلمي الوجه الشائع للأبحاث في تقنية التعليم هو الدراسات المقارنة، وهو نوع من الدراسات سيطر على المجال لفترة تربو على الخمسة عقود من الزمن. هدف هذه الدراسات هو محاولة إثبات فاعلية تقنية أو وسيلة معينة على التحصيل الدراسي مقارنة بالتعليم التقليدي أو بوسيلة أخرى. وبرغم أن أغلب هذه الدراسات لم تستطع أن توفر دليلاً كافياً على أثر التقنيات بالتحصيل الدراسي، حيث ينتهي أغلبها بفروق غير دالة إحصائياً، إلا أن الملاحظ كثرة هذا النوع من الدراسات على المستوى المحلي، مكررة أبحاثاً أصبحت جزءاً من تاريخ البحث العلمي للمجال. الوجه الآخر للأبحاث في تقنية التعليم ينطلق من أطر نظرية حديثة تركز على المتغيرات المرتبطة بقدرات المتعلمين وأساليب التعليم. النشر العلمي الوجه الشائع لإصدارات تقنية التعليم من الكتب (على المستوى المحلي والإقليمي والعربي) مع بعض الاستثناءات المحدودة - تبدأ بعناوين براقة تأسر القارئ خصوصاً بمصاحبة الإخراج الفني الجذاب، ولكن القارئ الواعي لا يلبث أن يجد نفسه وسط مجموعة من المعلومات التي تعالج المجال معالجة سطحية لا تصل إلى جوهره وغاياته؛ كما أنها غالباً ما تكون معالجة تقليدية حول أنواع الوسائل وتصنيفها مروراً بفوائدها وخصائصها وانتهاء بجرد مجموعة من الأجهزة والأدوات. وإذا اختلفت هذه الإصدارات في تصاميم أغلفتها وأسماء معديها (ولا أقول مؤلفيها)، إلا أنها في الغالب الأعم نسخ مكررة عن بعضها، باختصار هي كتب مليئة بالحروف ولكنها حروف بلا نقاط. الوجه الآخر لإصدارات تقنية التعليم من الكتب يؤكد جذور المجال النظرية وإسهاماته التاريخية، ولكنه ينطلق منها إلى التيارات النظرية الحديثة مبيناً انعكاساتها على تطبيقات تقنية التعليم وأساليبها، ويربط بينها بأسلوب علمي حاذق ومشوق يخاطب الفئة المقصودة من القراء والمهتمين. هذه الإصدارات تحاول دمج المفاهيم النظرية الحديثة والتقنيات المعاصرة من خلال نماذج عملية قابلة للتطبيق. باختصار هي إصدارات تضع النقاط فوق الحروف في سياقاتها النظرية والمعرفية والتطبيقية. خدمات تقنية التعليم الوجه الشائع لخدمات تقنية التعليم هي حيازة بعض الأجهزة والمواد وحفظها في غرفة أو غرف متفرقة من المبنى المدرسي، وتفتقد أبسط شروط التصنيف ونظام الإعارة أو الصيانة الدورية. ولذا، كثيراً ما تكون هذه الأجهزة غير صالحة للعمل، أو لا تتوافر المواد المستخدمة معها، إضافة إلى افتقاد المعلمين مهارات استخدامها. أما على مستوى التعليم الجامعي المحلي، فالملاحظ أن إدارة هذه الخدمات تتسم باللامركزية، حيث تحفظ الكليات المصادر الخاصة بها على انفراد، دون وجود مركز مصادر يقدم خدماته لأعضاء هيئة التدريس. الوجه الآخر لخدمات تقنية التعليم هو أنها تعنى ليس فقط بالخدمات التقليدية الخاصة بحفظ الأجهزة والمواد وترتبط بالقيادات الإدارية الوسطى في المؤسسة، وإنما هي مراكز مصادر تعليمية ترتبط بقمة الهرم الإداري، (في الجامعة مثلاً، ترتبط بوكيل الجامعة للمصادر التعليمية عادة) وتقدم خدمات عديدة لأعضاء هيئة التدريس، خصوصاً من خلال وحدات أو أقسام التطوير التعليمي، وهي خدمات تشمل الاستشارة في مجال تصميم وإنتاج وحدات تعليمية وتطوير أساليب جديدة في التعليم والتعلم وتجريب الابتكارات التعليمية ودعم برامج التعليم عن بعد. أما في مدارس التعليم العام، فإن هذه المراكز يقوم عليها اختصاصيو التقنيات أو ما يعرف حالياً بمعلم المصادر التقنية الذي يدرب المعلمين على مهارات دمج التقنية بالمنهج الدراسي. باختصار، خدمات تقنية التعليم في وجهها الآخر، هي آلية للتجديد الذاتي في أساليب التعليم وتقنياته. بين الدمج والإضافة الوجه الشائع لتوظيف تقنية التعليم في النظام التربوي، هو تقنية الإضافة التي تنظر إلى التقنية على أنها الإجابة والحل للمشكلات التعليمية، ولكن قبل أن تحدد السؤال وطبيعة تلك المشكلات. وحيث يتوقع الكثيرون أن تلعب التقنية المعاصرة دوراً بارزاً في تغيير النظم التربوية الحالية، إلا أن طبيعة هذا الدور تعتمد على الخطة التي توظف من خلالها التقنية المعاصرة دوراً بارزاً في تغيير النظم التربوية الحالية، إلا أن طبيعة هذا الدور تعتمد على الخطة التي توظف من خلالها التقنية في التعليم، لأن خصائص الإمكانات التقنية ليست وحدها التي تحدث التأثير على بيئة الإنسان وتشكلها، وإنما الطرائق والأساليب التي تستخدم فيها هذه الخصائص والإمكانات. وقد واجهت استراتيجيات إضافة التقنية للبنية المدرسية التقليدية فشلاً ذريعاً في استثمار الإمكانات الهائلة للتقنية في دعم فاعلية وكفاءة نظمها التعليمية، الوجه الآخر لتوظيف تقنية التعليم في النظام التربوي، هو تقنية الدمج التي تقوم على رؤية مستقبلية واضحة حول توظيف التقنية في التعليم، رؤية تنطلق من منظور نظمي لمشكلات التعليم، فالتغيير في جزء من النظام -كما يعرف التربويون- يتطلب في أكثر الأحيان تغييراً أو تعديلاً في جزء أو أجزاء أخرى من النظام. ولذا يتطلب دمج تقنية الحاسوب في التعليم، على سبيل المثال، تغييراً في أساليب التعليم ودور المعلم وأساليب التقويم واللوائح والسياسات التي تحكم العملية التعليمية.. إلخ. ولهذا، بدلاً من الانبهار التقني واعتبار التقنية هي الجواب ينبغي تحديد السؤال أولاً. فأسئلة مثل ما الحاجات التعليمية في النظام التعليمي التي لم نقابلها بعد ويمكن للتقنية أن تقابلها؟ وما الذي يدرّس حالياً ويمكن تدريسه بشكل أفضل بوساطة التقنية؟ تصبح على قدر كبير من الأهمية. الشلل التام باختصار ينبغي أن نحدد أين وكيف ينبغي أن تستخدم التقنية في التعليم، وهذا يتطلب تحديداً للأهداف والأولويات المطلوب تحقيقها من جهة، وتحديداً للإمكانيات التقنية الملائمة لهذه الأهداف.. إن مفهوم الدمج يعني أن تصبح التقنية جزءاً لا يتجزأ من تعليم المعلم وتعلم الطالب. ولتوضيح أهمية مفهوم الدمج مقابل مفهوم الإضافة نضرب مثالاً ساقه أحد التربويين، وهو مثال يجسد هامشية الدور الذي تقوم به التقنية في التعليم لو تصورنا أن المصارف التي تعتمد عملياتها، على تقنية الحاسوب اعتماداً كلياً تقريباً أنها تخلت عن هذه التقنية واعتمدت على العمل اليدوي في تنفيذ عملياتها، فما الذي سيحدث؟ لن يختلف أحد على أن كفاءة العمليات المصرفية ستتدنى إلى حد كبير وقد تصاب بالشلل الكامل، وهذا يعني، أن الفرق في مستوى الأداء بين الحالتين سيكون واضحاً. أما من الناحية الأخرى، عندما تضاف تقنية الحاسوب إلى المدارس ثم تتخلى عنها، فلن تتأثر العملية التعليمية تأثراً كبيراً، بل لن يلاحظ الفرق بين كفاءة الأداء في الحالتين. أحد أكثر الأسباب تفسيراً لهذه الحالة، هو أن المصارف عندما أدخلت التقنية في عملياتها أصبحت هذه التقنية جزءاً لا يتجزأ من طبيعة تلك العمليات ذاتها بحيث لا يمكن ببساطة إنجازها في غياب التقنية. أما بالنسبة للمدرسة، فإن التقنية تضاف إلى البنية التقليدية دون أن تتغلغل إلى طبيعة المهام التي يؤديها المعلمون والطلاب في قاعات الدراسة. في الحالة الأولى (المصارف) حُددت المهام التي يمكن أن تؤديها التقنية وأعيدت صياغة العمليات المصرفية لتلائم إمكانات التقنية؛ أما في الحالة الثانية، فإن دور التقنية وإمكاناتها.. لم تحدد، وعلى العكس من الحالة المصرفية، يتم تكييف التقنية لتلائم أنماط العمليات التعليمية السائدة في المدرسة. هذه بعض أبرز ملامح الوجه الشائع والوجه الآخر لتقنية التعليم، استعرضناها من خلال التضاد أو التباين، بهدف توضيح الاختلافات الصارخة بينهما. الوجه الآخر لتقنية التعليم مجهول في هويته ولكنه فعال وعملي ويحاكي لغة عصره، والآخر شائع ومعروف، ولكنه محدود الفائدة أو عديمها ومتخلف عن لغة عصره. الوجه الآخر لهذه التقنية الوجه الآخر لتقنية التعليم هو تقنية العملية وتصميم التعليم، تقنية توظف الأدوات المتمثلة بنماذج تصميم التعليم وتحليل المهمة والأهداف الدقيقة والتقويم التكويني، كما أنها تقنية توظف أدوات التفكير النظمي وتصميم النظم وعلم الجودة وإدارة التغيير؛ وهذه جميعها تقنيات لا غنى عنها للتغيير التربوي. من هذا المنظور تتضح أحقية تقنية التعليم لتكون إحدى بدائل الحلول لمشكلات التعليم؛ فعلى الرغم من عجز مئات الأبحاث عن إثبات تفوق التقنية في زيادة فاعلية التحصيل الدراسي مقارنة بالتعليم التقليدي، إلا أن دورها في الرفع من كفاءة العملية التعليمية (ترشيد الوقت والجهد) يمكن أن يصبح أحد أبرز المساهمات التي يمكن تقديمها لمهنة كانت ولا تزال تعتمد على الجهد البشري المكثف إضافة إلى دورها في حفز الطالب على التعلم وتفعيل مشاركته وتقديم مواقف شبيهة بالمواقف الحقيقية من خلال أساليب النمذجة والمحاكاة. إن مجالاً هذه سماته حري أن يأخذ موقعاً مناسباً في الخطوط الأمامية لحركة الإصلاح التربوي. أخيراً، نقول للمهني المتخصص في المجال، إن مهنتكم هي علم تصميم النظم التعليمية، هذا العلم هو حلقة الوصل بين النظرية والتطبيق، وهو الضوء المرشد الذي يبقي المصممين في المسار المباشر والضيق تجاه الأهداف المهمة، وهو ساحة منافسة يسترشد فرسانها بالضوء اللامتناهي للنموذج المثالي في محاولة لإدخال تحسينات صغيرة على العالم الواقعي. ونضيف أن تقنيات التغيير التربوي المذكورة أعلاه هي أدوات المتخصص في المجال في رحلة البحث والمعرفة والتطبيق، وهي قواعد اللعبة وشروطها، فإما أن نتقنها ونحاول تطبيقها ما استطعنا -كل في موقعه- وإما أن تبقى مهنتكم على دكة الاحتياط.