بشكل لا يخفى على أصحاب المهنة الإعلامية ورواد المنتديات الاقتصادية، كانت "مبادرة مستقبل الاستثمار" التي دشنتها المملكة حدثاً عالمياً بطابع خاص، والسبب هنا لا يتعلق بكونها جمعت المستثمرين الذين يديرون أصولاً بقيمة 22 تريليون دولار، بل لأنها أسست لمفهوم الاستثمار غير التقليدي بأساليب غير مسبوقة. "الوصول إلى المستقبل والسيطرة عليه" هي إحدى العبارات التي ارتبطت بجوهر رؤية 2030 والتي تحولت فيما بعد إلى برنامج عمل يملك فهماً واقعياً عن كل ما يريد تحقيقه وكيفية تحقيقه، ولم يمض الكثير من شعورنا بالترقب تجاه الخطوات المقبلة حتى وجدنا أنفسنا خلال شهور قليلة نتعرف على منظومة من المشاريع النوعية ذات الفكرة الجديدة كلياً، والتي تؤكد لنا أن القادة الناجحين هم الذين لا يكتفون بتوقع المستقبل، ولكنهم يصنعونه.
هذا هو التصور الذي جعلنا نستمع بفخر إلى ولي عهدنا الشاب الأمير محمد بن سلمان وهو يشرح مشروع "نيوم" في حديث يمكن اعتباره تعريفاً بفكرة استثمارية تملك قدرتها الخاصة على تشكيل واقعها، ويمكن اعتباره شرحاً عن أحدث ما يمكن معرفته بشأن مستقبل المدن الذكية وأسلوب الحياة في ظل تقنيات الواقع المعزز، وذلك خلال دقائق معدودة حضر فيها الإيمان بإرادة الشعب كمحفز للعمل، وبقدرات الشباب كمحرك للتنمية، كما حضرت فيها لغة المنطق، وقوة الرسائل الاتصالية، والإيضاح البصري معاً.
وإذا كان المعتاد هو ولادة الأفكار داخل المراحل الزمنية، فإن "نيوم" تأتي بمفهوم الفكرة المرحلة، فهي تدشن لنمط جديد من المشاريع الاستثمارية من خلال تطويعها لعنصر الجغرافيا عبر ثلاث دول لتكون في موقع يبعد 8 ساعات عن ثلثي سكان العالم، وتوظيفها لعناصر الطبيعة كالرياح والشمس في تشكيل كامل طاقتها المستخدمة، كما أنها تعد مرحلة من حيث كونها المنطقة التي ستبنى بالكامل وفقاً لمفهوم التقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي حيث ستظهر الكثير من الأشياء للمرة الأولى، وسيعيش البشر واقع التحولات الجذرية في مجالات كالبناء والطاقة والنقل والخدمات والتعليم والعمل.
وحين نقول "الفكرة المرحلة" فهذا لأن "نيوم" تعمل بفكر استباقي على أن يعيش الناس فيها بأسلوب متقدم عما هو موجود في أي مكان آخر، بحيث يصبح الأمر شبيهاً بالانتقال إلى مرحلة زمنية أخرى، فهي فكرة تدرك تحولات السنوات القليلة الماضية، وتستثمر في هذا الإيقاع المتسارع الذي ستظهر معه تقنيات جديدة لتفرض نفسها كحقائق وضروريات يومية، وهو ما يمثل تصورًا مشابهاً لانتقال الناس إلى الهواتف الذكية بشكل لم يكن متوقعاً لديهم قبل سنوات قليلة.
لقد جاء كل هذا التنوع والابتكار في مشروع "نيوم" ليكشف لنا جانباً فقط من قوة الأفكار التي تحرك رؤية 2030 على النحو الذي جعلها تجذب أكبر الكيانات الاقتصادية بشكلٍ من شأنه أن يحوّل المملكة إلى أرض الفرص المستقبلية ونقطة التقاء مشاريع الاستثمار العالمي، خصوصاً أن الرؤية تستثمر في المعرفة التي فاقت عوائدها فعلياً ما تعود به مصادر الطاقة التقليدية، ومازالت هذه المعرفة تشق طريقها بشكل متصاعد لتشكيل مفهوم جديد للعالم الذكي حيث لا حدود للتوقعات، بما في ذلك.. أن نتوقع نهضة تفوق ما حدث في عصر النفط.
يبقى فقط أن ندرك دورنا المحوري كمجتمع وكطاقات بشرية في تحويل هذه الأهداف إلى واقع معاش، بإذن الله، فاستراتيجية الوطن المستقبلية تستثمر في الإنسان وتعتمد على العقول والقدرات، كما أن هذا التحول الذي نشهده يقوم بشكل أساسي على الأفكار والابتكار، وهو ما يستوجب علينا توحيد الجهود مع سمو ولي العهد، حفظه الله، من خلال مجالاتنا المتعددة، سواء كان ذلك بإيجابية التفاعل الاجتماعي أو استشعار دورنا في صنع التحول، والفرص التي نستطيع المشاركة الفاعلة فيها بالفكر والإبداع، أو حتى بمجرد تعريف العالم بهذه الصورة المشرفة عن بلادنا وطموحها الواعد، فالمستقبل مشروعنا الذي يحدد شكل حياتنا القادمة، والذي علينا جميعاً أن نعمل عليه الآن ليكون أفضل.