مع بدايات القرن أطلت موجة الصحوة على المجتمع السعودي، حيث كانت ظاهرة دينية لها جوانب إيجابية تتمثل في الدعوة للدين، ووجدت تجاوبًا واسعًا لأنها اتفقت في مضامينها وشعاراتها التي رفعتها مع التدين الذي يعبر عن طابع المجتمع؛ لذلك تفاعل معها واحتفى بها لأنها توافقت مع فطرته الدينية، كما أن في مضامينها دعوة إلى صفاء العقيدة، والإخلاص في العبادة والورع وإصلاح الأخلاق، وكلها كانت كافية إلى السير في ركابها، كما أنها وُظفت في كبح مد التيارات ذات الهيمنة السياسية. ورغم أن كثيرين اليوم ينتقدون الصحوة حتى من رموزها إلا أن البعض ما زال يربط الصحوة بالدين ربطًا وثيقًا، ويعتقد أن نقدها هو نقد للدين رغم أنها قائمة على اجتهاد بشري خالص، وطرحت نفسها بشكل مثالي في مصادرها وغاياتها لذلك جنحت إلى المبالغة في الحشد؛ لأنها كانت ترى أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وغيبت الاختلاف معها حتى في أمور الفرعيات، وأوَّلت بعض النصوص ذات الأوجه المتعددة لكي تكسب حصانة ضد المختلفين معها، وبالغت في قاعدة سد الذرائع؛ لذلك وقعت في إشكاليات معرفية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية، جعلتها تصطدم بالواقع. ولعل من المآخذ على الصحوة أنها بالغت في استرجاع تطبيقات بشرية في عصور ماضية لم يحتضنها عصر الإسلام الأول، وأضافت لها شيئًا من القداسة، وبالغت في تهميش العقل على حساب النقل، والعناية بالمظهر على حساب المضمون، وبالغت في التوجس والإقصاء وتزكية الذات، وإلغاء التنوع الثقافي، وأعلت من شأن مفهوم الأمة مقابل مفهوم الدولة والوطن، وكانت تقف كثيرًا عند كل مستحدث جديد، وتجد صعوبة في التعاطي معه، كما أنها تعاني من صعوبة في التعاطي مع الآخرين والانفتاح عليهم والاستفادة منهم في مختلف العلوم، رغم أنها وظفت كثيرًا من مخترعاتهم المادية لخدمتها، كما أنها قللت من أهمية التعليم المهني؛ لأنها كانت تراه من العلوم غير الشرعية؛ مما أوجد لدينا ضعفًا في مخرجات التعليم، وعدم القدرة على الوفاء باحتياجات التنمية ومتطلبات سوق العمل. ربما أسهمت عوامل معينة في التأثير على الصحوة، وفي تشكلها منذ المراحل الأول، لكن خطابها التقليدي لم يعد قائمًا بسبب الانفتاح، وعصر الثورة المعلوماتية، حيث اتسعت دائرة الوعي ولم يعد طرحها الأحادي المنغلق قائمًا أمام تعدد الآراء وتسامحها، وبدأت في التشظي الداخلي والتحول إلى تيارات متعددة، وبدأ كثير من رموزها يغادرون مواقعهم الأولى، ويتخلون عن بعض أطروحاتها. وخلال السنوات الماضية راج الخطاب المنتقد للصحوة، وبات مألوفًا نقدها بشكل ظاهر، وأصبح الحديث عن هذه الظاهرة مادة إعلامية مستساغة لدى كل المهتمين، وعندما عرض برنامج "صحوة" في شهر رمضان كان اسم البرنامج يرسل رسالة مباشرة لزمن الصحوة بأن هناك صحوة ضد الصحوة، وكان يرمز لها كثيرًا، وكان واضحًا في قضاياها التي كانت عنوانًا حاضرًا في حلقات البرنامج، وأسهم مقدم البرنامج أحمد العرفج الذي عاصر الصحوة، وعايشها من فتراتها الأولى في توظيف هذه القضايا، وطرحها على ضيفه عدنان إبراهيم فكانت مادة رمضانية دسمة طرحت فيها فرصة للبرنامج لمناقشة كثير من هذه الإشكاليات بطريقة نقدية تحليلية متباينة بشكل مختلف، ومدعومة بالأدلة أثارت عاصفة من الانتقادات ضد البرنامج، وشخصية عدنان إبراهيم المثيرة للجدل أصلًا. وأيًا كان عدنان إبراهيم المعروف واعتداده المبالغ فيه بنفسه، وهجومه اللاذع على منتقديه بطريقة أخرجته عن دائرة الطرح العلمي المتزن، ومع كل ما قيل عنه وعن تناقضاته وإيمانه ببعض الخرافات، إلا أنه نجح في طرق هذه المواضيع وإثارة بذرة الشك في كثير من مألوفاتها؛ مما دفع الكثير إلى التفاعل مع هذا البرنامج وإعادة تدوير موضوعاته التي أصبحت مادة دسمة في الصحف ومواقع التواصل، ولاقت تفاعل الكثيرين وردود الفعل منهم؛ وهو ما يدفعنا إلى الحاجة إلى برامج دينية علمية على وزن هذا البرنامج تخرج بنا من الطرح الأحادي الضيق إلى طرح علمي متنوع متزن قائم على طرح كل الأدلة والآراء الفقهية دون انتقاء، ويوضح للناس عظمة الدين وعالميته وقابليته لكل زمان ومكان، بعيدًا عن القراءات الضيقة للدين، ويسهم في كبح جماح التشدد والغلو والفكر المتطرف، كما أننا بحاجة إلى إشاعة ثقافة الاختلاف وتعدد الآراء كطبيعة بشرية، بعيدًا عن الخصومات والعداوات والتصنيفات المبنية على رؤى ضيقة. وحتى يكون تأثير هذه البرامج عميقًا فإن من الأجدى أن يكون أطراف الحوار من أبناء الوطن، وممن عاصروا تمدد الصحوة سواء كانوا ضمن قطارها أو من المختلفين معها؛ لأن التغيير في المدرسة الفقهية لن يتأتى إلا عن طريق أبنائها، فكثير ممن وقفوا ضد أطروحات عدنان إبراهيم كان أسباب عدم تسليمهم بما يطرح هو الحساسية والشكوك التي تساورهم حول الآخر الذي يناقش شؤونهم، كما هو سائد في مجتمعنا الذي يتأخر كثيرًا في قبول ما يطرحه الآخرون عن شؤونه ما لم يجد تأييدًا من قيادات فكرية محلية في البداية.