فاجأني البارحة ابني محمد داخلا مكتبي دون أن يطرق الباب، نظرت إليه باستغراب وهو يضع بين يديّ كمّا من الأوراق والرسومات الكثيرة، سألته بتحريك عيني إلى أقصى اليمين الأعلى، وإمالة رأسي زاوية 35 درجة إلى اليسار، ومط الشفتين بعلامة استغراب القوس المقلوب، فلم يزدني عن قوله (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ! قال: انظر إلى الرسومات إذن، قلت: ما هذه بالضبط؟ قال: رسومات لمخترَعي الجديد، جاءتني فكرته من بداية رمضان، ونفذتها البارح، فالوطن بحاجة ماسة إلى مثل هذا الجهاز يا أبي، ولا غنى لكل أسرة عنه، وإن وفقنا وحصلنا على براءة الاختراع، سيكون التصنيع سهلا، والبيع والتوزيع أسهل في رمضان القادم، فقط ستواجهنا عقبة خدمات ما بعد البيع، لأن الجهاز سيُستهلك كثيرا، خصوصا في شهر رمضان. إنه مفاجأة كبرى يا أبي "جهاز الدغدغة" فكرته أنه يرتديه المشاهدون بعد صلاة المغرب مباشرة، أثناء متابعة برامج الطيحات والأسنان والزعيق الخليجي، حتى يأخذ المواطن حاجته من الضحك اليومية بين فترتي المغرب والعشاء، فللجهاز ثلاثة أوضاع: منخفض، للمشاهد الذي من عادته أن يضحك لأتفه سبب، باستخدام أنامل صناعية تتحرك بطريقة فجائية في الإبطين أو الخاصرتين. متوسط للمشاهد الذي لا تضحكه إلا الكوميديا الحقيقية، وهذا تزيد فيه حركة الأنامل وبعض الملاحق لتكثيف الدغدغة. عالي، للمشاهد الصخرة، الذي لا يضحك بسهولة، وهذا الوضع يزود بملحق ينفث غاز الضحك (أكسيد النيتروس) عبر أنبوب صغير إلى الأنف بكميات مضبوطة. نظرت بمشاعر بين الفخر والشفقة إلى محمد، وضعت يدي على جبهته، لم أجد حرارته مرتفعة، عدت ونظرت في الرسومات، وابتسمت قائلا: وما الحاجة إلى هذا كله ؟ لماذا تريد أن يضحك المشاهد؟ تنهد وقال: أبي، إن لنا إخوة في الوطن والخليج يتعبون من بداية العام خلف الكواليس، يؤلفون ويخرجون ويمثلون طوال العام، حتى إذا جاء رمضان امتلأت بهم القنوات، مثل (فاير الوالكي و حسم غسيري وأصحابهما في طاي باي وغيرهم) فليس من المعقول يا أبي أن نصدم رهافة حس الفنانين بأن الجمهور لا يضحك؟ بالله يا أبي ماذا سيقولون عنا؟ ربما يأخذون فكرة خاطئة ويقولون "ما عندكم حس". لكن يا محمد، كيف يعلمون أننا لم نضحك؟ وهل هذا ذنبنا؟ ثم يابني ربما هم لا يريدون أن نضحك في الأصل، ربما يريدون أن نبكي. الفن له فلسفات عدة يابني، ترى الفنان يضحك وهو في الأصل يبكي، لكن يستثمر الضحك في التعبير عن البكاء. أعلم من عينيك يا محمد أنك لم تفهمني لكن خذ إيضاحا:" الكوميديون الخليجيون، عندما يضعون أسنانا زائدة لممثل هم يريدون أن تتعاطف مع الشخصية وتشعر بمعاناتها من الأسنان، وعندما يطيح الفنان كل 40 ثانية، يريدون أن تتعاطف معه لأنه غير قادر على الاتزان، أما عندما يضبح فهو يستفز كوامنك بالعاديات". سامحكم الله يا بني، أنتم جيل لا يفهم الفن وفلسفات الكوميديين ، ونبشهم للقضايا الحيوية، حتى اتهمتموهم بالتكرار والتقليد في قضاياهم، ولم تركزوا على جانب(التوكيد) فالتكرار توكيد يؤكد أهمية القضية. أرجو أن تأخذ أوراقك وتغادر مكتبي قبل أن أغضب. أيا محمد ، قبل أن تخرج، تأكد أن الكوميديا الخليجية ليست للترفيه والضحك بل هي تمرد على النسق العالمي بأكمله، فنحن نقدم المأساة في طبق الملهاة حتى ندخِل المشاهد في حالة من الربكة والفوضى الخلاقة التي تخرجه من محيط أفكاره إلى التفكير في النقطة التي أثارها المشهد، وهذه النظرية الخطيرة أخذها فنانونا من بيت الشاعر العربي: لا تحسبوا رقصتي ما بينكم طربا فالطير يرقص مذبوحا من الألم ذات القوس المقلوب بدا على شفاه محمد، الذي هز رأسه يمنة ويسرة، فهل تظنون أن كلامي لم يقنعه؟! رابط الخبر بصحيفة الوئام: طاي باي .. والدغدغة !!