في البدء كانت المطبعة ثورة أولى في تاريخ الخليقة، نقلت أصوات الأفكار من ضباب الذاكرة إلى وضوح الورق، وتحولت طرقات الأصابع إلى ومضات من حبر وورق، ونجت الذاكرة من فخ الحفاظ على الأفكار، وعبء روايتها، وربما تزوريها. ومن ثم جاء الإلكترون ليكون ثورة ثانية أصابت المطبعة والورق وتابعيهم بالرعدة المفاجئة، وفتحت جسر القرن الجديد للأفكار كي تتحرر من كونها لمحة حبر وورق، إلى أن تكون ومضة فلاش سريع وخاطف، وتتجاوز قصة أن تكون كلمات محبوسة في قفص من كرتون مقوى، إلى أن تتحول إلى مدفع إلكتروني يقذف بالأفكار والمعلومات إلى كل مكان فوق هذه الكرة الكونية، وجعلتنا نفكر دون أن نخاف، ونكتب دون أن نفكر في الرقيب والمقص ومركز الشرطة. وها نحن الآن نعيش في ظلال الثورة الثالثة من تاريخنا البشري. ظلال “ويكليكس” الذي أزعج واشنطن وعواصم الغرب والشرق. عصر المسرح المفتوح، والحوارات المسموعة، وانتهاء عهود الأسرار، وحجّاب المعلومات، وحُجب الأفكار، ودعاة تسوير العقول، والأذهان. عصر الكلمة الطائرة، والأسرار الذائعة، والحديث السري الذي يسمعه مئات الملايين دون أن يشعر الحاكون بذلك في ليل الكلام. لا أعرف ما الذي يمكن أن نفعله الآن، كصحافيين، في ظل وجود ربع مليون وثيقة دبلوماسية للدولة الكبرى التي تتولى تصريف مقادير العالم، تسيل لها لعاب مئات الصحف وألاف المحررين والمخبرين. علينا أن نعترف أن “ويكليكس” قد أنهانا ولم تعد لنا قيمة تذكر هذه السنة، وربما ما بعدها، وبعد بعدها، ويبدو أن على الصحف أن تصرف محرريها لعدة أشهر، وعلى الصحافيين أن يحصلوا على إجازة مؤقتة من التاريخ حتى يفيقوا من هولهم، وتستيقظ في دواخلهم القدرة على الابتكار من جديد. على مدار الأيام الفائتة لم يكن لدى الصحف من عمل سوى نشر الأجزاء التي تخص بلدانها من الوثائق، وتحليلها، ومتابعة ردود أفعالها، وانتفت الحاجة إلى خلق المواضيع الجديدة، والبحث وراء الخبر والخبطة. ليس معروفاً إلى أي وقت ستستمرُّ هذه الحمّى المفيدة، لكن زوابعها لن تنتهي خلال السنوات القريبة المقبلة. كنت أتمنى أن أرى جوليان اسانج، مؤسس “ويكليكس”، شخصية هذا العام في مجلة “تايم” بدلاً من الرجل الذي خلق “فايس بوك”، ومنح نصف مليار إنسان القدرة على التواصل مهما بعدت المسافات، لكنني شعرت بالخيبة وانا اقتطفها من رفها المهيب في بهو المكتبة، لأنني لم أره. ربما لم ير فيه أهل “تايم” سوى محظوظ جاءته الرسالة فنشرها، دون أن يتكبّد عناء البحث عنها، بينما يراه الآخرون فارساً هتك أسرار العالمين دون أن ينتبهوا، قاده إلى ذلك جراءته وإقدامه وألمعيته وانتهازيته في آن واحد. أما العرب فلا يزالون في حيرتهم الأبدية: أهو متأمر؟ أم جاسوس؟ أم مجرد محتال الكتروني يقود كتيبة من المحتالين؟. ولا يزالون يتساءلون أيضاً: نحن نعرف الدمية، لكن من يحركها؟ ولماذا لم نر قصة إسرائيلية مهمة في الوثائق؟ ومن يريد أن يضرب أوباما في قلب داره، وعقر أسراره؟ إنها أسئلة مشروعة، تماما مثل مشروعية نشر غسيل واشنطن الجميل والقذر على مرأى ومسمع العالم كله، وأدعوا من الله أن يبعد عنّا معشر الصحافيين شرور “ويكليكس” بأسرع ما يمكن، حتى نعود إلى العمل والأمل من جديد ! * سلطان السعد القحطاني