عندما ينطفئ ضوءُ الخارج، وتذهب الوجوه والكائنات والأماكن نائيةً في بحر الغياب. حين تبتعد البقعةُ الأولى ويهمي عليها رمادُ الأيام غيرَ قليلٍ من المرارةِ والكدر. وقتَ تنتصبُ العزلةَ باباً يصرّ في الفراغ، فيما الوحدةُ تطيّرُ ذبابَ الضجر يصفعُ وجهَ النهار ويخنقُ الأمل. حالَ تضيقُ الفسحةُ، ويشحبُ الرجاء في دفقةِ مياهٍ تجدّدُ العهدَ ريّاناً وتحفر المجرى ثانيةً.عندما...؛ فتأتي حشودُ الإنقاذ من جهة الماضي حارّةً مشتعلة، تعضّ على كتاب الذكريات. تلك الأمانة الهاجعة تنتظر من يعود إليه، يستوفي ما فاته. فالنور هناك ما زال متجمّعا، لا يستنفدُهُوقتٌ ولا تبدّدُهُ ريحٌ مهما اشتدّ عصفها وتوالى رعدُها. ربّما تنفتح فرجةٌ أو يزداد إحكام المزاليج على الوحيد عائما في عزلته اللزجة. محمد حبيبي يتصفّح كتاب الذكريات ويقبس من سطوره ما لعلّه يكفكف جهامة الوحدة ويخفّف من غلوائها في ديوانه "جالساً مع وحدك" في (مسعى للنشر والتوزيع، الكويت 2011)، حيث الاستعادة من محطّات العمر قريبِها وبعيدِها تقبلُ مغموسةً في الألفة ويشخبُ منها الشجن. نداءٌ يعذُبُ كلّما كرّتْ صفحاتُ ما ليس هنا أو أنّه آخذٌ خطوتَهُ الكبيرة نحو المغيب. يخبطُ جناحُ الحنينِ في الصدر فيختبطُ الدمُ في جهشةٍ لا يُسمعُ صوتُها. الدمعُ يتسلّلُ خلسةً رداؤهُ الحسرةُ وملءُ فمِهِ تأوهات. في النصّ الأول "الصورة" يتجلّى لسعُ الغياب. خمسةٌ تجمعهم صورةُ الشبابِ الفتيّ. تضمّهم غرفةٌ جدرانُها تحضن ندى الحلم وأخضرَ الأمل في نضجِ الكتابة وتسريعِ عجلة التغيير (كانوا خمسةَ مخلوقاتٍ: لا أبهجَ.../ والغرفةُ كانت تتّسعُ لكلّ العالمِ/ (بابلونيرودا، غيفارا، غاندي...)/ خمدتْ ثوراتٌ/ سقطتْ دُوَلٌ/ وانهدمتْ غرفة) ويكتملُ نبأُ الصورة بغياب أربعةٍ موتاً وهجرةً، وبقي الخامس الشاعر وحدَه والصورة التي رتّبَ لالتقاطها، لتبقى شاهدا على خيبةٍ وعلى طحنٍ تحت ضرس الأيام (أنا من صوّبَ نحو المخلوقاتِ الخمسةِ/ نارَ مسدّسِ اللحظة../ أنا من ضغطَ زنادَ الذكرى؛ فتحَ الدُّرجَ../ ونظرَ إليها الآنَ/ لكي تقتلُهُ الصورة). إن الذكريات التي يمضي إليها الشاعر يستنهضُها، لا تؤكّد سوى وحدته. ويحضرني هنا نصٌّ قصير للشاعر إبراهيم نصر الله يتناول الوحدة ورصاص العتمة: (في العتمة تتجمّع/ وحيدةً في مرايا الدم/ كأنّ الرصاصةَ التي عبرتْ الرأسَ/ لم تكن تبحث عن شيءٍ/ غير تلك الذكريات). اللاجدوى تطلّ برأسِ غرابِها، وكأنها تنعب "أبداً.. هيهات". عالمُ الألفة الذي خبرَهُ الشاعر وسرى في عروقه حتى المنتهى، يقضّ مضجعَهُ التهدّمُ الذي حاق به. ثمّة ما يتفكّك تلقاء عينيه، فلا يستطيع معه استخلاصاً ولا استرجاعاً. يعذّبُهُ مكوثُ الأثر وذهابُ العابر، أيّاً يكن هذا العابر. هو بضعةٌ من روحه، سقتْ الأيامُ زهرتَهُ فأورقَ في كتاب حياة الشاعر. يبرّحُ به المحوُ الساري في حبرِه. الجدارُ الذي يتكّئُ عليه يريد أن ينقضَّ وليس له إلا أن ينظر ويحكّهُ أظفرُ الوحشة الشرس، على النحو الذي يلقانا في نص "أثاث" حيث موجع القلب الباكي، لا يعاين في تغيير أثاث المنزل إلا اندثارَ عالمِهِ الأليف مصروعاً تحت سنابك (صرعات الديكور). الأثاث لم يكن استعمالاً وقضاء حاجة، وحين يبلَى لا أسف عليه. هناك حياةٌ مُشرَبَةٌ بالانفعالات نمتْ طوايا الأثاث والتصقتْ بمفردة الُعمر ولوّنتْهُ؛ فارتبطتْ به.. وإنّ نزْعَهُ من المنزل قرارٌ بالموت يطالُ الساكنَ قبل الأثات الذي تحمله (... سيّارةُ نقلِ العفشِ أو الموكيت؛ كسيّارة نقلِ الموتى؛/ فيما لحظات الحبّ/ الزّعل/ الصرخات/ الضحكات.../ جثامينٌ فكّكها عمّالٌ ومضوا). تطفو الذكريات حول الشاعر، يتعلّقُها واحدةً واحدة. جرسُ الماضي يرنّ مزهوّا ببهائِهِ القديم. يفزع إليه الوحيد. إلى الباب يمضي، يستعصي عليه الفتح. تسفعُهُ الحديدةُ الحامية: المفتاح رحلتْ به الأيام. * كاتب سعودي