بين تجربة وأخرى يعود الشاعر السعودي محمد حبيبي إلى ما يبدو أنه أجواؤه الأثيرة وفضاؤه المحبب، أي القرية والطفولة وعوالمهما، تلك العوالم التي تأتي ممزوجة باللوعة وانكسار الذات وذهاب الأصدقاء إلى غياب لا عودة منه. الإلحاح على هذه المناخات المرة تلو الأخرى، لا يعني عدم الإتيان بجديد أو تقديم إضافة نوعية، إذ يمكن بوضوح ملاحظة اشتغال على مقدار كبير من الحيوية والفرادة، اشتغال ينطلق في كل مرة، يعود فيها إلى تلك الفضاءات، من وعي يتطور باستمرار بالشعر وأدواته، وحواس تملك الخبرة يوماً بعد يوم، فتمارس تربصها أو انقضاضها على الأشياء، كمن يعثر على لقية ثمينة. يمنح الشاعر حبيبي انتباها إلى التفاصيل الصغيرة يعطي حيزاً ملحوظاً للهامش داخل التجربة، وهو الأمر الذي يجعل النص لدى الشاعر يأخذ وجهة جمالية مائزة. يعاد صياغة هذه التجربة، التي تنهض على عالم يتهاوى ويندثر، في إطار جملة شعرية متطورة وبرؤية جديدة، تتيح لهذا المناخ إمكان أن يعاد إنتاجه باستمرار. منذ العنوان في الديوان الجديد «جالساً مع وحدك» لحبيبي يتقلب القارئ بين حالات ومشاغل لئن اختلفت وتنوعت، فإن ما يجمعها هو الشعور بذهاب الأشياء إلى غير رجعة، كأنما الشعرية لديه تزدهر على المندثر والبائد، «ما من كتابة إلا وهي عن لحظة بائدة ومندثرة؛ حتى ما نقرؤه على أنه كتابات إبداعية محملة برؤى استشرافية أو تنبؤية، هي كتابات أيضاً، تعبر عن رؤية تمت في لحظة سابقة ماضية»، يقول محمد حبيبي، ويضيف أيضاً أن اللحظة التي تمضي «لا يمكن القبض عليها بذات تفاصيلها وكينونتها مرة أخرى. فبمجرد أن يمسك الكاتب أداة التدوين، يصبح كل ما يسبق هذه اللحظة أو يزامنها في حكم الماضي». متغيرات طالت مفاهيم الحياة يعيدنا العنوان «جالساً مع وحدك» إلى عناوين ديوانيين سابقين له: «انكسرت وحيداً» و«أطفئ فانون قلبي»، إذ لا يزال الواحد في مواجهة الجماعة، والوحدة في مقابل الانخراط مع الآخر، وهي أيضاً تحيل إلى نوع من الغربة والاغتراب أحياناً في معناه الحاد، حين لا يجد ربما من يقاسمه طريقته في النظر إلى الأشياء والعالم وهو يمضي بعيداً منه، أسأله ألا يبدو سوداوياً ومتشائماً هنا؟ فيرد: لو تأملتَ في الحقبة من عام ألفين؛ إلى وقتنا الحاضر ستجد أنه قد حدثت متغيرات وتحولات كثيرة ومتسارعة طالت كل مفاهيم الحياة؛ وبالتالي لم يعد للوحدة والاغتراب مفهومها الاجتماعي القديم. بمعنى أن معالجة الشعور والحالة المرتبطة بالوحدة والاغتراب باتا مختلفين. ربما أتفق معك بخصوص مضامين الوحدة والاغتراب في ديوان «انكسرت وحيداً 1996» وإلى حد ما «أطفئ فانوس قلبي» الذي كتب قبل (2001). أما بخصوص هذه المفاهيم وما قد تفضي إليه من سوداوية وتشاؤم في المجموعة الجديدة (كُتبت ما بين 2005-2010) فالأمر مختلف لاهتزاز هذه المضامين ذاتها وتحولها إلى مشاعر وأحاسيس نسبية». عقب تحولات الألفية الثالثة ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وكافة سبل التواصل الفوري بالصوت والصورة، لم يعد بالضرورة، كما يلح حبيبي، أن يكون الجالس وحده (غريباً أو وحيداً)، ما دام بحوزته أصغر جهاز تواصل، «فهو منخرط في مجتمع متآلف فيه مع مئات الأصدقاء بالعالم. بينما أخذنا نرى في المقابل استفحال أنماط جديدة من بوادر العزلة والوحدة والاغتراب، بدأت تخلفها طبيعة العوالم الجديدة وتؤثر بها في المجتمعات التقليدية، حتى بين أعضاء الأسرة في البيت الواحد». بدا أنه لم يكن عبثاً وضع نص شيركو بيكه في مستهل الديوان، إذ إنه ينطبق على عدد لا بأس به من النصوص فيه، أي مرور الشعر من ثقب إبرة وفي أحلك الأوقات، وهذا ما يؤكده حبيبي حين يقول في حوار مع «الحياة» إن شيركو بيكه مع شعراء مثل سعدي يوسف، على الصعيد العربي، ويانيس رتسوس، على الصعيد العالمي وغيرهم، «يمثلون فئة شعرية لا ترتكز تجاربها على بلاغة الصورة، وجماليات التشكيل اللغوي، بمقدار تركيزها على فتح الآفاق الموضوعية الجديدة، وارتياد المناطق الشعرية البكر، عبر تحويل العادي والمألوف إلى حالات شعرية غير مسبوقة، لذلك لا تجدها مهتمة بِالكَمّ قدر اهتمامها بالكيف، حتى لو لم تتجلَّ القيمة العميقة لأجزاء كبيرة من اشتغالاتها إبّان إنجازها؛ فإن أهمية تجاربها، تأخذ طابع التكشّف التدريجي، بمرور الزمن». ذكرى نائمة الديوان الجديد بدا أنه على غير عادة الدواوين السابقة، يتضمن نصوصاً يمكن أن تقوم عليها أكثر من تجربة، فالنص الأول وعنوانه «الصورة» مثلاً، والذي يعالج مسألة الذكرى، يمكن أن يكون نواة لتجربة تقارب الذكرى وضغطها على الذات الشاعرة، خصوصاً حين تتحول إلى آلة للقتل، بمجرد النظر إلى صورة، (هناك أيضاً نص «آثاث» و«كف» غيره. «من المهم هنا الانتباه، لأن المقصود بالصورة ليس بالضرورة أن يكون الصورة الملتقطة عبر الكاميرا ثابتة أم متحركة» يوضح حبيبي ويضيف «نص قُبلة، مثلاً قائم على ارتداد الصورة من نظرة للمرآة. نصوص أخرى، تقوم على إعادة تدوير اللقطة في شكل رسمة ما، نص «مزحة» يبدأ برسمة، نص «بيت» ينتهي برسمة، ولهذا السبب تجد الكتاب به حزم (عناوين جانبية) يجمع كل منها تجربة ضمن تجربة الكتاب الكلية. ثمة نصوص قائمة على الذكرى التي تبعثها صورة؛ ونصوص قائمة على اللقطة الارتدادية لصور جد مؤثرة منطبعة بالذاكرة ومختمرة بشكل غائر، ولولا المحرض المستجد لظلت الذكرى نائمة. ربما نص «الصورة» تجلت فيه سكين الذكرى مشحوذة لتترك ذلك الانطباع، وكأنها الوتر الذي ينشد عليه النص، ولعل لعنوان النص(الصورة) أثر في ترك ذلك الانطباع». يعتز محمد حبيبي كثيراً بعوالم الطفولة وأجواء القرية، غير أنه يفرق الطفولة والقرية، بصفتهما موضوعين مباشرين، وبين استثمارهما كرؤية ومنظور وأداة، «أي بصفتهما (تقنيتي كتابة) فهما بحسب الصفة الأخيرة رافدان لا غنى عنهما، ليس لي فحسب، بل للحياة ذاتها. الطفولةُ شِعرُ الحياة؛ والشِّعرُ في منبعه الصافي ليس إلا روح الطفولة في الأشياء». ويرى أن مقداراً كبيراً من مهمة الشاعر الأساسية يكمن في مدى تمسكه بروح الطفولة في داخله، خصوصاً في عالم يشيخ ويتمدّنُ بسرعات مهولة. «ولك أن تطالع في هذا السياق مثلاً ما ذكره سركون بولص - وهو المقيم أكثر من عشرين سنة بمدينة نيويورك - في حوار معه قبل رحيله، - أظنه في العدد الأول أو الثاني من مجلة «بانيبال» إن لم تخني الذاكرة - إذ ذكر كلاماً مطولاً ولافتاً عن أهمية العودة لهذا المنبع، ومدى ما وجده من متعة في استعادة كتابة تفاصيل طفولته شعرياً بقرية صغيرة منسية من قرى العراق». في نص «بيوت» ورغم البهجة أن يمتلك الشخص منزلاً، فإن ثمة مخاوف وهواجس تندلع من النص، تبدأ من بناء البيت وتنتهي بالعذاب بالوطن، نص فيه رؤية معقدة، تمد يداً للعمالة المهدرة حقوقها، إلى حق الأطفال باللعب في تربة البيت، وبين هذا وذاك، يبقى السؤال: ماذا يعنيه البيت، بالنسبة له، في أفقه الشامل؟ لا يعرف الشاعر ماذا يعنيه البيت في مفهومه الشامل؟ «لكن تتملكه أحاسيس وأمنيات، «قد تبدو اشتراطات مفرطة المثالية». فهو يريد إذا امتلك بيتاً ألا يكون جاره في المبنى المقابل «مهدداً، بالخروج من شقته المستأجرة بأي لحظة». يريد الشاعر بيت لا يُبنى على تجريف بيوت دأبت العادة على تسميتها بالشعبية ويخجل البعض لكونها قديمة. وفي الواقع هي هويتهم المكانية التي تطمس، وتطمس معها ذاكراتهم، وكانت عمليات بنائها جزءاً من منظومة جمالية اجتماعية حضارية يتجسد من خلالها أدبيات الحيّ والحارة رجالاً ونساء. «لا أريد (كانتوناً أسمنتياً) مغلقاً، أمارس به - بدعوى ضغوطات الحياة - كل أنواع الكبت لحريات لساكنيه، فيكون جزيرة للتنشئة على منظومة من المبادئ المتناقضة، بين ما نريده خارج البيت وما نقوم به داخله. أريد بيتاً لا يهدر في عملية بنائه إنسانية عمالة، أو حقوقها. إذا وجدت ذلك البيت فهو البيت الحلم». القبض على أثر يتفلت في نصوص «نجوى الملائكة» تقليب لمفردة الفقدان، فقدان صديق أو قريب، وبدا معنى الموت أو «إيش يعني ميت»، سؤالاً جوهرياً يمس الحياة كلها، فهل تكفي الكتابة لتعويض الفقدان، أو لاستدراج النسيان؟ أسأله فيرد أن أي كتابة لا يمكنها أن تستدرج النسيان، أو تعوض عن أي فقدان، «بعد نصوص «نجوى الملائكة» أدركت أنه كلما أوغلت في رسم تفاصيل حزن ما، فإنك تمهر فحسب، في الحفاظ على تلك الذكرى طازجة، لترتدّ وتنقض عليك بذات حرقتها الأولى بمجرّد مطالعتها». لا يظن محمد حبيبي أن أحداً أو شيئاً بمقدوره الإجابة عن ذلك السؤال المعلق «ماذا يعني ميت؟»، الذي جاء في سياق أحد النصوص، كما لا يعتقد أن في تلك النصوص إجابة ما، فما فعله محاولة للقبض على الأثر المتفلّت، «أو التأمل فيما يمكن أن تطعنك به شعرة باقية بمشط يحركها هواء مكيف، هي كل ما تبقى من جسد غابَ وقد مارستَ معه كثيراً من أشكال العقوق. التأمل في اللحظات التي تُهدَرُ من أعمارٍ، نكتشف بعد فوات الأوان، أنها كانت أثمن من تمضيتها في القطيعة وافتعال شجارات وخصامات ومعارك وهمية، بينما كان يمكن استثمار تلك اللحظات في العيش بشكل أكثر محبة وسعادة.. وأخفّ حزناً ووخزاً بالندم فيما بعد». ينفتح النص الشعري لديه على فضاء البصري والمرئي، إذ سبق له أن قدم تجارب لافتة في هذا المجال، ومن خلال عرضها في أكثر من مكان أثارت أسئلة وردود أفعال جيدة، وفقاً لذلك لا يبدو أن هناك حدوداً للمغامرة الشعرية عنده، «أبداً»، يجيب جازماً، فالمبدع الذي يؤمن بوجود حدود وتحفظات، في رأيه، لا يمكنه مبارحة موقعه، ولا يمكنه التعايش مع المستجدات، وهو فاقد للذة الأهم، «لذة المغامرة على الصعيد الذاتي. إذ محرضات الكتابة في وجودها الأساسي، التنفيس عن مكبوتات الذات، والاستمتاع بفعل الكتابة ذاته. قبل أن تنضج تلك الممارسة في شكل أو قالب ما يسوقه لاحقاً للقارئ. لولا هذه المنطلقات الذاتية؛ لما ظهرت تلك المغامرة، التي سعدتُ بما تحقق لها من أصداء وردود أفعال، لم أتوقع حدوثها على ذلك النحو. وفي المقابل أيضاً، لم أتوقع أن يكون التفاعل العملي معها محدوداً، على صعيد ظهور تجارب في السياق ذاته، باستثناء تجربة واحدة قام بها الصديقان عبدالله التعزي ومحمود تراوري. وكنت أتوقع أن تظهر تجارب أخرى، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة. لكن لعل المستقبل يكشف عن ذلك، ولو في تجليات أخرى مختلفة». اختزال تجربتي في عوالم القرية وأجواء الطفولة «إجحاف»