جميعنا يعرف أن الإثارة أساس مهم في العمل الإعلامي، بل إنها مطلب أساس للبقاء والاستمرارية، والسبق الإعلامي أصبح الشغل الشاغل لصناع الإعلام ومروجيه ومتلقيه. صحيح أن البعض يرى في الإثارة المصطنعة بعدا عن الموضوعية والصدق وأخلاقيات المهنة، إلا أنها تبقى مرتكزا أساسيا لجذب المستهلك سواء كان قارئا، مستمعا أومشاهدا. ولعل الانقلابات الفكرية التي بات يفاجئنا بها كثير من المفكرين بين الفينة والأخرى نوع آخر من أنواع الإثارة الإعلامية، فهذا المفكر أيا كان توجهه وانتمائه، كان لعقود طويلة محسوبا على تيار أو فكرة محددة، وما إن تبدأ الأضواء بالانحسار عنه حتى يعلن انقلابه على تلك المدرسة بكل شعاراتها ورؤاها وأفكارها، وهذا الانقلاب يبدأ بنقد رموز تلك المدرسة من أساتذة ورفاق درب، ثم يعرج على المنهج وضلاليته المنعكسة على الأتباع والتي جعلتهم مجرد نهايات طرفية لكبار منظري تلك المدرسة وأربابها. إن الانقلابات أو الثورات الفكرية المتعاقبة التي يشعل فتيلها بعض مفكري الساحة هي في المجمل تراجعات ربما تكون تكتيكية تقتضيها المصلحة الشخصية وما يستجد من تباينات وخصومات مع الأقران، تتطلب هي الأخرى إعادة ترتيب لوائح الأسماء ولاء وبراء حسب ما تقتضيه الفكرة الجديدة، والأمثلة كثيرة ومحسوسة ومشاهدة ، فهذا – في العرف الإعلامي والتصنيفي – كان أصوليا متمرسا يبيع المدرسة القديمة بمقتنياتها الفكرية والمادية وينتكس مرتدا في عرف شيوخه ومنظريه ليصبح فنانا أو كاتبا متحررا، وذاك مفكر تقدمي صارع المرارات كلها وهو يجندل خصومه الفكريين الواحد تلو الآخر ويصفهم بالجمود وعدم مسايرة العصر، وفجأة ينقلب فكريا على رفاق الدرب أولا، ويكيل لهم التهم المؤدلجة والمفخخة لا ليقصيهم عن الساحة فحسب بل من الحياة لو استطاع إلى ذلك سبيلا. أؤمن كثيرا بتطور الإنسان وتأثر مفاهيمه بالسائد والمحيط من عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكني أرى أن ما يحدث في ساحتنا الفكرية من انقلابات وتغيرات ليس في مجمله نابعا من مفاهيم فكرية وثقافية بحتة، بل أراها تصفية حسابات مع رفاق درب كانوا في يوم من الأيام هم العمق الإستراتيجي والفكري لذلك المفكر أو المثقف، وهذه التصفية الفكرية تحتاج جلدا للذات أولا ثم للمدرسة وشيوخها وطلابها، وهذا لا يكون إلا من خلال تصريح صحفي أو ندوة ثقافية أو تغريدة تويترية تفضح رفاق الدرب السابقين وتشمت فيهم الأعداء والأصحاب على السواء، وهنا يتحقق المقصد لذلك الانقلابي فيصبح قاسما مشتركا أعظم لأحاديث الجميع مؤيدين ومعارضين، بل إن أعداء الأمس يحتضنونه ويعلنون سلامة مقصده ونزاهة خطابه.