لم تزل المنطقة التاريخية بجدة عروس البحر تختزن ذكريات الآلاف من زوارها الذين يحرصون على زيارتها كل عام، ليس فقط على مستوى المعلم الأثري التقليدي الذي يعد من أساسيات الوجهة السياحية لقاصدي هذه المنطقة، ولكن لما تملكه هذه المنطقة العتيقة من "كاريزما شعبية"، ممزوجة "بإرث المكان" و"حيوية أيام زمان". ومن الملامح الشعبية التي ظلت جزءا من تاريخ المكان رغم التطور الحضاري، والمولات الشاهقة، الجلسة الجداوية التي ما زال يحرص عليها مسنون وشباب على حد سواء في المنطقة التاريخية بالبلد، والتي يكون بطلاها "براد الشاي" و "لعبة الدومينو" التقليدية. هذه الجلسات التي تمتد من بعد صلاة العصر حتى مغيب الشمس وثقها تاريخياً المدونون والموثقون لتاريخ جدة القديم الذي يعود إلى 6 عقود من الزمان، حيث يجتمع رجالات الحارة على "حصيرة" ليتبادلوا أطراف الحديث الإنساني مع رشفات من الشاي الخاص الذي تعده ربات البيوت، مع لعبتهم المفضلة "الدومينو" التي احتفظت بمكانها الإستراتيجي في فؤادهم قبل أيديهم، وأصبحت وسيلة تسلية أثيرة لديهم، بغض النظر عن حسابات الفوز والخسارة. تلك الحالة الفريدة في تاريخية جدة لم تفقد بريقها حتى اليوم في ظل إصرار شديد من مسنيها على الاحتفاظ "بنكهة المكان" المميزة لأعوام طويلة، بروائح الشاي المختلفة بالقرنفل، والقرفة، والهيل، والمرامية ليعطي ذلك المزج من العقود الطويلة ملامح خاصة. وقال المواطن محمد الشهري إن "بقاء هذه الجلسات إلى اليوم يظل شاهداً على عشق "التراث الجداوي" بكل تفاصيله في نفوس ساكنيه وزواه من خارج المدينة الذين يرون في استمرارية تاريخية هذه الجلسات تمسكاً "بالشعبيات القديمة"، مشيرا إلى أن هذه الجلسات طرأت عليها تغييرات بسيطة، منها أن الشاي الذي كان يعد في البيوت أصبح يعد عن طريق استراحات القهوة والشاي التي بنيت في المنطقة التاريخية، حيث تعلو من حين لآخر عبارات يطلقها المسنون لعاملي تلك المقاهي مثل "تكفى يا هو .. براد شاي أبو أربعة" في إشارة إلى الشاي الذي تبلغ قيمته أربعة ريالات. أحد هواة التصوير اليابانيين القادم للمنطقة بغرض توثيق "بانوراما" تاريخية جدة وقف متأملاً بعدسته جلسات المسنين، ووثق هذه الجلسات بما تتضمن من وجوه وأدوات وضحكات عفوية. رئيس بلدية المنطقة التاريخية المهندس سامي نوار يحدد التفاصيل التاريخية لهذه الجلسات ويقول "إنها تمثل بقايا امتداد لتاريخ المنطقة القديم، في شكل نمط الحياة الطبيعة التي كانت تمارس في ذلك، وهي أيضاً شكل من أشكال الإشعاع الاجتماعي لتاريخية جدة". وأضاف أن "هذه الجلسات كانت نتاجا لطبيعة للمكان، وعدم وجود ملهيات ومتنفسات تقنية كأجهزة التلفزة في الوقت الحاضر، فكان السمر والجلسات والحكواتية والألعاب التقليدية هي المتنفس الوحيد بعد انتهاء أهل المنطقة من أعمالهم الخاصة، فكان كبار السن وأعيان الحارة يجتمعون في هذه الجلسات التي كانت تأخذ طابع "المركاز، والمقعدة"، ويتجاذبون أطراف الأحاديث". نوار أرجع حرص بعض المسنين بالمنطقة التاريخية" على اللقاء في هذه الجلسات، إلى الحنين إلى القديم والرغبة في المحافظة على تاريخ هذه المنطقة، كاشفاً في الوقت نفسه عن انتهاء المرحلة الرابعة من الخطة الإستراتيجية لإعادة تأسيس المنشط السياحي في المنطقة التاريخية من حيث معالمها وتراث نمطها الاجتماعي".