لم يقتصر تأثير الثورات والاضطرابات التي هزَّت العالم العربي خلال عام 2011 على الدول التي شهدت لفحات "الربيع العربي" فقط، بل امتد ليشمل دول المنطقة ومعظم دول العالم تقريباً. ومنطقة الشرق الأوسط هي من أهم مناطق العالم وهي نقطة التقاء مصالح الدول الكبرى، ولذلك لم يتوقف الصراع عليها قرونا طويلة. وكان من الطبيعي أن تكون تركيا من أوائل الدول التي تأثرت، ولا تزال تتأثر بأحداث "الربيع العربي"، فهي إلى جانب كونها دولة مجاورة للعالم العربي، تشترك مع شعوبه بروابط تاريخية ودينية وثقافية عميقة. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي تقريراً أعده الأستاذ الزائر بالمؤسسة، سنان أولجنش، في ديسمبر الحالي حول الدور التركي في المتغيِّرات الجديدة في الشرق الأوسط. يقول تقرير كارنيجي إنه مع محاولات بعض دول العالم العربي الانتقال إلى أنظمة ديموقراطية بعد سقوط الأنظمة الدكتاتورية فيها، يبرز تساؤل طبيعي مهم حول قدرة وملاءمة تركيا على أن تكون نموذجاً يحتذى لأولئك الذين يريدون أن يوجهوا ويقودوا المنطقة خلال الانتقال الصعب إلى نظام جديد يتمتع بديموقراطية أكبر. منذ الوهلة الأولى تبدو هناك حواجز مهمة لتطبيق النموذج التركي على الإطار العربي. على سبيل المثال، العلمانية التي يقدرها الأتراك كثيراً كانت أساساً قد فُرضت عليهم بأساليب غير ديموقراطية. والقادة العرب الذين يطمحون في غرس العلمانية في بلدانهم تحت ظروف توجد فيها معارضة ديموقراطية سيواجهون كثيرا من التحديات. ومن ناحية ثانية، فإن مؤهلات تركيا ضمن العالم الغربي –مثل ترشيحها للاتحاد الأوروبي وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجلس أوروبا- لا تنطبق على هذه الحالة. والصعوبات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في تطوير سياسة جوار فاعلة لمنطقة جنوب المتوسط توضح أن هذه العلاقات معقَّدة بالفعل. ليس هناك خط مستقيم يساعد على تطبيق النموذج التركي على الإطار العربي. ومع ذلك فإن هناك عدة أسباب تجعل المراقبين يأخذون مثل هذه الفكرة والاحتمال بجدية. تشير الأدلة التاريخية إلى أن الأمثلة التي تقدمها التجارب السابقة تقدم عادة نماذج للجهود والمحاولات التالية في عملية التحول نحو الديموقراطية، والتي تقدم بدورها نموذجاً للمحاولات التي تليها، وهكذا دواليك. ومن هذا المنطلق، يمكن للنموذج التركي أن يؤثِّر على الإطار العربي بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ناحية ثانية فإن التقارب الثقافي بين تركيا وباقي دول المنطقة يلعب دوراً مهماً في هذا الإطار. تجد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التجربة التركية ذات معنى أقرب إلى أوضاعها وتراها أكثر قرباً من أي تجارب أخرى لدول غير إسلامية. والتحول الداخلي في تركيا الذي حدث خلال العقد الماضي بتأثير حزب ذي جذور في الإسلام السياسي لا يمكن إلا أن يعزز تأثير هذا التقارب الثقافي. لذلك فإن النموذج التركي يمكن أن يؤثر على العالم العربي إذا تم تقديمه بطريقة دقيقة وحذرة، حيث يتم تقديم كل قضية بمفردها بدلاً من تقديم التجربة كلها بشكل كامل ومجتمع. ويمكن أن تؤثر التجربة التركية على عدة نواح، تشمل الإصلاح السياسي، والإصلاح الاقتصادي، وبناء المؤسسات. وفي جميع هذه المجالات، تمتلك تركيا دوراً قيماً تستطيع أن تلعبه في دعم وتعزيز الديموقراطية وبناء الدولة في العالم العربي. إن بداية "الربيع العربي"، أو "اليقظة العربية" كما يسميها البعض، تقدم فرصة تاريخية لإطلاق موجة جديدة من التعاون عبر الأطلسي. والسمة المميزة لهذه الموجة الجديدة ستكون التدخل التركي الفعال في نجاح هذه الموجة الجديدة من التعاون. إن دور تركيا كنموذج للديمقراطيات الناشئة في العالم العربي يوفر فرصة لتنشيط الشراكة مع الغرب، حيث إنه لا توجد طريقة أفضل لتهدئة بواعث القلق الغربي من بعض مناحي السياسة الخارجية التركية من حثها على استخدام المنابر المتعددة التي تمتلكها في برنامج كبير للتغيير في العالم العربي. ويختم تقرير كارنيجي بالقول إن العمل التركي بانسجام مع الغرب لتعزيز الديموقراطية وسيادة القانون في العالم العربي سيقدم بالأكيد الدليل النهائي على أن النموذج التركي ليس فقط ذا صلة مع سياسة المنطقة، لكنه أيضاً حكاية نجاح دائمة.