خيري شلبي كان حكواتي الرواية العربية الأصيل. حين تقرؤه تشعر وكأنك منزو في مقهى قديم تستمع بتركيز شديد لحكاية من حكاياته. تتخيله في حجره كتاب كبير شديد الثقل ينتقي منه الحكايا والكل حوله ينصت لحواديته. يغوصون في عوالمه الأسطورية الشديدة الثراء الغارقة في مصريتها. يستمعون بشجن وهو يحكي قصة إسطاسية؛ موال صعيدي شجي يخترق الروح. يصفقون انتشاء بعالم وكالة عطية الأسطوري الذي يختزل النفس البشرية وصراعاتها، آمالها و طموحاتها، هزائمها وانتصاراتها في حدود هذه الوكالة العتيقة. يضحكون في صخب من نوادر ومنامات عم أحمد السماك ويحل صمت ثقيل وهم يستمعون لقصة صحراء المماليك. براعة شلبي تكمن في قدرته على الإمساك بجوهر الروح المصرية وتمكنه من خلق امتدادات للأسطورة والإبحار في العوالم المهمشة ببراعة لا تتأتى إلا لحكاء شديد الملاحظة صاحب تجارب صاخبة تمكنه من فهم العوالم التي يرسمها في رواياته. خيري شلبي ليس بحاجة لقراءة جديدة لرواياته فقد أشبعها النقاد والدارسون، لكن تعليقا على مقطع فيديو له وهو يتحدث عن الكتابة، نجده اختزل تجربته في نقاط سريعة ونصائح للكتاب الشباب بالغة في الاختزال والعمق وكأنه كان يدرك أن ساعته قد حانت، فترك لنا هذه الدرر. (أنصح الكتاب الشباب أن يبتعدوا عن الثرثرة على القهاوي وفي الندوات فمع كل ندوة جديدة تموت بذرة من بذور الموهبة والطموح). باختصار وباستقراء بالغ الذكاء للواقع ينصح شلبي الأدباء الشباب أن يتفرغوا للكتابة ولا ينغمسوا في عالم الشهرة والأضواء الكاذبة فإدمانها قاتل للموهبة. فشلبي لا يقرأ ما يكتب عنه أبدا كي لا يتأثر به كما يقول فالمدح والتقريع يؤديان لنفس النتيجة وهي تقويض قدرته على الكتابة. من يريد أن يصبح كاتبا حقيقيا عليه أن يبتعد عن الكتابة من الذاكرة وأن يعيش تجارب حقيقية ويغوص في أعماقها، فالكتابة من الذاكرة وإن كانت جميلة إلا أنها تخرج فنا خالي الدسم والمعلومة التي لم يتعب الكاتب وينزف دما ويشعر بمعاناة للحصول عليها ولن تؤدي لخلق فن ذي روح. هنا اختزل شلبي جوهر الرواية في هذه الجمل البليغة. يستطيع القارئ لرواياته أن يشعر بعمق تجاربه ويفهم لم كان لرواياته كل هذا التأثير في وجدان القراء. يكمن سر شلبي في صدق الانتماء للرواية فخلال نصائحه كثيرا ما شدد على الرغبة الحقيقية لإنتاج فن ذي معنى. فهنا البداية كما يقول، الرغبة الصادقة الحقيقية لكتابة الرواية وما يترتب عليها من تعب ومعاناة وجلد لا يقوى عليه إلا من كان صادقا وروائيا حقيقيا. آخر نصائحه كان أهمها وهو ما يتعلق بجانب تكنيكي؛ زاوية الرؤيا. زاوية الرؤيا للحكاية، الموقف أو المشهد والتي تتضح من أول سطر من أسطر العمل. هي الفيصل وهي الميزان الحقيقي لقدرة الكاتب وموهبته فأيا كانت الزاوية ضيقة أم منفرجة فهي تستفز موهبة الكاتب ليعبر ويرسم العمل كاملا. يسرد شلبي نصائحه للشباب ببساطة دون أستاذية، رغم أن من كان في مكانه من حقه أن يكون أستاذا. مكانة شلبي لا تكمن في الجوائز الأدبية والندوات الثقافية، مكانته الحقيقية في قلب صفحاته بين أزقة أسطر رواياته، في وجدان كل من قرأها وتأثر بها.